طارق الهاشمي
نظرية الاقتراب غير المباشر نشرها الاستراتيجي البريطاني بازل ليدل هارت عام 1929 والتقطها الألمان ووظفوها في انتصاراتهم اللاحقة في حروبهم في أوروبا وشمال أفريقيا في الحرب العالمية الثانية. النظرية تعني بالحرب والاستراتيجية ومع ذلك لا أجد حرجاً في تكييفها واستخدامها في مختلف أشكال الصراع الأخرى. النظرية تنصرف إلى تحشيد أعظم الجهد القتالي نحو أضعف نقاط العدو من خلال المناورة بالقوات نحو هدف هو حقيقة غير مطلوب لذاته وإنما لتحقيق هدف نهائي هو أخطر وأكبر في الصفحات اللاحقة، حيث تتوجه إليه الجهود حال الحصول على الهدف الأول، والغرض تحقيق المباغتة (المفاجأة) وبالتالي تحقيق النصر بسرعة وبأقل الخسائر ... محاور مهمة من هذه النظرية يمكن أن تنطبق على عاصفة الحزم.
ولو اتجهنا إلى الجزيرة العربية، وتحديداً صوب العمليات العسكرية لعاصفة الحزم، نجد أن الهدف المعلن هو التصدي لمليشيات الحوثي بعد أن تجاوزت خطوطاً حمراً من أجل ترشيدها، باستخدام العصا الغليظة، وليس تدميرها أوالقضاء عليها. لكن الاهتمام لا ينصب على الحوثيين فحسب، والملف أوسع من ذلك، ويعنى باستقرار اليمن، بل يتجاوزه. من جانب آخر لو لم تشكل التطورات الأخيرة تهديداً حقيقياً لأمن الخليج العربي لما انطلقت عاصفة الحزم. بكلمة أخرى، فإن أمن الخليج العربي هو الهدف النهائي لعاصفة الحزم. وهكذا، أمامنا على الطاولة عدد من الأهداف لن تتحقق إلا من خلال التصدي ابتداء للحوثي عبر عاصفة الحزم، وبعد التمكن منه يجري الانتقال إلى أهداف أعم وأكبر.
ولهذا، من المستبعد أن يستقر غبار المعركة وتضع الحرب أوزارها ويعلن عن انتهاء العمليات التي انطلقت تحت لافتة عاصفة الحزم، بمجرد أن ترضخ ميليشيات الحوثي وتعود إلى رشدها المفقود، بل من المتوقع -ومن المفضل- أن يقود الانتهاء من صفحة التصدي للحوثي إلى تصعيد وتيرة التحرك ليشمل أهدافاً أكبر على التراب اليمني، أو ربما في مسارح عمليات أخرى هي الأكثر خطورة وأهمية من مسرح عمليات اليمن... وفي هذا الصدد، لا تفسير لدي حول جدوى انتشار المليشيات الشيعية الموالية لإيران (عصائب أهل الحق بقيادة الخزعلي ) وميليشيات «حزب الله» مؤخراً على الحدود الجنوبية للعراق وهي تهدد وتتوعد... إلا كونه استفزازاً وتنبيهاً لصانع القرار السعودي إلى أن التهديد لا يقتصر على ميليشيات في الجنوب فحسب، بل وإلى تهديد ميليشيات في الشمال أيضاً! ليتحسب لذلك في إطار عاصفة الحزم!
هذه قراءتي الشخصية، على رغم أن التطورات الفعلية على الأرض ستبقى مرهونة بنوايا وخطط التحالف العربي، وعلى وجه الخصوص المملكة العربية السعودية .
الأهداف (المعلنة) لحملة عاصفة الحزم لا تتعدى الشأن اليمني، بل هي تنصرف حتى لجزئية منه، وتعنى باستعادة الشرعية وفرض الأمن والنظام بتطويع مليشيات الحوثي وإجبارهم على العودة إلى جادة الصواب، وإطلاق سراح الدولة اليمنية بعد أن اختطفوها بانقلابهم المشؤوم.
لكن الهدف غير المعلن، على رغم انه مترابط مع الهدف المعلن، لا يمكن تحقيقه من دون تحقيق الثاني، وهو أمن السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، حيث القلق من تداعيات انقلاب الحوثي وانعكاساته على الشأن الداخلي الخليجي. وهكذا، بينما توجه الضربات للحوثي فإن عين القيادة لا تغادر الأمن القومي الخليجي، ولهذا فالانتصار على الحوثي ليس مطلوباً لذاته وإنما لهدف أكبر، تقترب منه العمليات وان بشكل غير مباشر، إذ لا قيمة لهذه العمليات متى انحصرت بالملف الحوثي وتجاهلت تحقيق أهدافها النهائية في تحقيق الأمن والاستقرار ليس في اليمن فحسب وإنما لعموم دول الخليج العربي.
نعم، ميليشيات الحوثي تشكل خطراً على أمن اليمن، لكن مع دعم إيران وتحريضها وتحولها أداةً لتصدير الفوضى إلى المنطقة منذ بواكير ثورة 1979، فإن هذه المليشيات تتوسع في خطرها من الوطني إلى الإقليمي، وهو السبب الذي دفع للتحرك عسكرياً من أجل التصدي لها وحرمانها القدرة على المناورة عبر الحدود، بعد أن تمكنت من الداخل اليمني.
إذاً، الهدف النهائي والمركزي غير المعلن الذي يفترض أن تسعى الحملة إلى تحقيقه بشكل غير مباشر، هو حماية الأمن القومي من تهديدات إيران، وهي لذلك (أي الحملة) لا يفترض بها أن تتوقف لمجرد إعادة ترتيب الأوضاع في اليمن وعودة الوعي للحوثي، ذلك أن مصادر التهديد لم تعد قاصرة على اليمن بعد أن أشعلت إيران بتدخلاتها حرائق في عموم المنطقة، وقبل اليمن كانت سوريا والعراق ولبنان، وتصريحات شخصيات قريبة من دائرة صنع القرار السياسي في إيران تتوالى ومن دون حرج حول تمدد إيران في المنطقة العربية وسقوط عواصم وإحياء الإمبراطورية الساسانية وتسمية عاصمتها بغداد، لهذا سيكون من المستغرب توقف العمليات في اللحظة التي يستسلم فيها الحوثي من دون قيد أو شرط، بينما مليشيات طائفية رديفة تنتشر على الحدود تشكل الخطر ذاته الذي تشكله مليشيات الحوثي، آخذين في الاعتبار أن جميع هذه المليشيات، على رغم تفاوت الأسماء والعناوين، ما هي إلا أدوات للنفوذ الإيراني. هذه المليشيات ليست وظيفتها تصدير الفوضى، فهي تحققت باستخدام القوة الإيرانية الناعمة على مدى السنوات التي أعقبت غزو العراق عام 2003، بل مهمتها (أي المليشيات) تكريس آثار تصدير الفوضى والتمكين للمشروع الإيراني التوسعي، بإلغاء الدول العصرية وتحويلها دولَ طوائف لا يحكمها دستور أو قانون. وحالها كحال يمن ما بعد انقلاب ميليشيات الحوثي، فإن أخطارها تتجاوز الوطن إلى الدول الخليجية والعربية المجاورة،
ايران تدرك ذلك، وهي بالتالي ستسعى إلى حرمان التحالف العربي من أي انتصار وتفادي انهزام الحوثي، لأن انهزامه سيفتح شهية العرب لإدامة زخم التعرض نحو مناطق نفوذ أخرى، وهكذا، فإن الليالي ربما تكون حبلى بالتطورات، ولكن كيفما ستتطور الأحداث فإن من المؤكد أن السادس والعشرين من آذار (مارس) سيبقى علامة فارقة في تأريخ العرب الحديث، والعودة إلى ما قبله، بكل ما فيه من تردد وترقب واستنزاف، لن يعني سوى الترخيص لإيران للعوده إلى مزيد من التمدد والهيمنة، وهذا لم يعد مقبولاً.