رسالة من العميد مدير إدارة البحث الجنائي، وحدة مكافحة الجرائم الإليكترونية الأردنية وجهها إلى مدعي عام عمان.
تاريخها يوم 17 ديسمبر 2019. تاريخ اليوم له مغزي لمن يعرف.
ماذا قال العميد لسعادة المدعي العام؟
قال:
" يرجى العلم بأنه ومن خلال متابعتنا لمواقع التواصل الاجتماعي عبر الدوريات الإليكترونية المتابعة من قبل وحدة مكافحة الجرائم الإليكترونية تم مشاهدة حساب على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك باسم توجان البخيتي، يقوم مستخدمة بنشر منشورات مضمونها الإساءة للشعائر الدينية.
التتبع الفني للحساب توجان البخيتي المذكور على موقع الفيس بوك تبين إنه يعود للحدث توجان على نصار البخيتي يمنية الجنسية تحمل الرقم الشخصي...
تم تنظيم ضبط المشاهدة اللازم والمرفق طيا .
لإجراءاتكم لطفاً."
-------
انتهت الرسالة.
عندما قرأتها تصورت أني أخطأت في الفهم.
فالجرائم الإليكترونية تشمل عمليات النصب، تشمل عمليات التجسس، تشمل أشياء كثيرة في الواقع. أما أن يكرس سعادة العميد وقته وجهده من أجل تتبع منشورات على الفايس بوك لصبية في السابعة عشرة من عمرها فهذه جديدة.
أعني جديدة في أي بلد يلتزم بالحد الأدنى من الحريات.
هي مخزية في الواقع. تخزي الأردن قبل أي شيء أخر. لأنها تظهر لنا أن الأردن الحبيبة تعيش واقع حريات يندى له الجبين.
بلاغ سعادة العميد الرسمي أدى إلى فتح قضية، تقف بسببها اليوم صبيتنا توجان البخيتي امام القضاء الأردني.
والتهمة الموجهة إليها كما تقول وثائق المحاكمة تتلخص في: "جُرم نشر شيئا مطبوعا او مخطوطات او صورة او رسما او رمزا من شأنه أن يؤدي إلى إهانة الشعور الديني لأشخاص اخرين وإلى إهانة معتقدهم الدينية خلافا لأحكام المادة 278/ 1 من قانون العقوبات".
------
"إهانة الشعور الديني" هي عبارة نستخدمها في الكثير من بلداننا لتكفير من يختلف معنا في الرأي.
نحن أكثر شعوب العالم إهانة لمعتقدات غيرنا. نشتم ونقذف في أديان غيرنا. نجَرح ولا نبالي بل نفعل ذلك بتلقائية نحُسد عليها. وردود الفعل التي أقامت الدنيا واقعدتها على احتفال اتباع الديانة البهائية بمولد رسولهم الكريم في الأردن في شهر نوفمبر الماضي، ومشروع بناء البيت الإبراهيمي في الإمارات، تظهر لنا حجم الفصام الذي نعاني منه.
ونُّصر: "ديننا الأفضل، وغيرنا كافرون. وعليهم ان يقبلوا ذلك وهم صاغرون."
لكن عندما يتعلق الأمر بمعتقداتنا نحن، نحاكم من نختلف معه في الرأي، وكثيرا ما نقتلهم، هل نسيتم مقتل الكاتب والصحافي الأردني ناهض حتّر في الأردن عام 2016 الذي قتل أمام بوابة قصر العدل في العاصمة عمّان، حيث كان متوجها لاستكمال محاكمته بتهمة الإساءة للذات الإلهية.
ثم تقولون داعش لا تمثلنا؟
-------
قضية توجان غطتها كثير من وسائل الإعلام العربية. وتستحق أن تغطيها وسائل الإعلام الغربية أيضاً.
كيف بدأت؟
توجان البخيتي.
صبية في السابعة عشرة من عمرها.
نابغة.
هذه هي الكلمة التي تصفها.
تنتمي إلى جيل جديد يعرف أهمية وسائل التواصل الاجتماعي، واكتسبت شهرة واسعة من خلالها رغم صغر سنها.
حرب اليمن اخرجتها مع والدها علي البخيتي من الوطن.
هو ذهب إلى لندن، وهي بقيت مع والدتها واخواتها في الأردن.
والدها كاتب وسياسي وله مواقف واضحة من الأديان بصفة عامة. هذا حقه. حرية الرأي تعني أن تؤمن بما تشاء. وطالما لا تحرض على قتل غيرك كما يفعل طيور الظلام، فهذا شأنك.
وتوجان كانت تعيد نشر بعض كتاباته على صفحة الفايس بوك.
كل هذا طبيعي.
التحقت بمدرسة خاصة اردنية.
ولمن لا يعرف، بعض المدارس الخاصة الأردنية تتحكم فيها شبكة الإسلام السياسي، في صورته السنية.
لمن لا يعرف، الإسلام السياسي يسعى جاهداً إلى لعب دور الوصي على الفكر والتفكير داخل الأردن.
وكما فعلوا في بلدان عربية أخرى، "ركز إخوان الأردن على العمل الاجتماعي والتربوي المباشر، وتمكنوا خلال العقود السابقة من بناء شبكة واسعة من مؤسسات العمل الاجتماعي.... واستثمار المساجد والمدارس والعمل الخيري لنشر دعوتهم والتعريف بها" (د. محمد أبو رمان وحسن ابوهنية، الحل الإسلامي في الأردن، 2012, ص.70).
مدرسة الجزيرة الخاصة لا تتبع بشكل مؤسساتي رسمي الإخوان المسلمين. لكن "المدير والكادر الذي فيها من المنتمين للإخوان المسلمين". هكذا يقول البعض.
والوصاية الدينية والفكرية للمدرسة على طالباتها تبدو مؤكدة لذلك. رغم أن تكفير الغير ليس حكرا على أتباع الإسلام السياسي.
مدرسة الجزيرة استهدفت توجان من البداية. بسبب مذهبها أولاً ثم بعد ذلك بسبب ما تضعه على حائط الفايس بوك.
اكثر ما آلمني مشهد الصلاة الذي وصفته توجان البخيتي في فيديو لها، كيف أصرت عليها المعلمة ان تصلي "ويديها مضمومتان"، ثم كيف منعتها من الصلاة مع الطالبات الأخريات، لأنها "مسربلة"! تركوها وحيدة في كل صلاة بعيداً عن الطالبات الأخريات، خوفاً من صلاتها ويديها غير مضمومتين!
أي إقصاء هذا؟
أي إيمان هش هذا؟ ثم باسم أي رب تدعون؟
ثم تقولون بعد ذلك إن داعش لا تمثلنا؟
نفس هذه المدرسة استهدفت توجان من جديد، اوقفتها بسبب منشورات والدها وما أسمته ب "أفكارها المسمومة".
نشرت المدرسة بيانا على موقعها على الفايس بوك، قالت فيه إن بيانها جاء "حفاظاً على القيم والمفاهيم والأخلاق والعادات واحترام العادات السماوية أولاً كمسلمين وثانياً كأردنيين".
وإنها تستجيب لشكاوي من أهالي الطالبات، اتهموا توجان " بنشر أفكار ومعتقدات تمسّ ديننا الحنيف من خلال حسابها وحساب والدها". وأنها طالبت توجان بالتوقف عن النشر إلى حين انتهاء الفصل الدراسي، إلا أنها "رفضت رفضاً شديداً معتبرة أن أفكارها المسمومة للأسف هي حرية فكرية شخصية ولا يحق لنا التدخل بها نهائياً وأنها لن تتوقف عن النشر".
المدرسة تعتقد أنها "تنصر الله".
فبيانها ختمته بالأية الكريمة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (محمد - 7)".
لكن مثل هذا الخطاب لا علاقة له بنصرة الله.
لا تقحموا الله في محاكم التفتيش.
ما فعلته المدرسة ببيانها هو شن خطاب تحريضي تكفيري ضد صبية في السابعة عشرة من عمرها.
وبسبب هذا الخطاب التحريضي التكفيري تقدم العميد مدير إدارة البحث الجنائي، وحدة مكافحة الجرائم الإليكترونية الأردنية، ببلاغ رسمي إلى المدعي العام.
ولذا تقف توجان اليوم امام المحكمة.
محكمة اردنية.
تحاكم
صبية في السابعة عشره.
تهمتها الإساءة "للشعائر الدينية" ثم "المشاعر الدينية".
وفي الحالتين، تهمتها هي التفكير خارج السرب.
أي خزي هذا؟
ثم تقولون بعد ذلك إن داعش لا تمثلنا؟