خيري منصور
قد تكون اليمن بكل ما يعصف بها الآن مجرد نموذج طازج لتلاشي ما يسمى المنطقة الريادية بين الأسود والأبيض .
فأزمات هذا القرن التي مهّد لها القرن الماضي في نهاياته بدأت تفرض منطقها الحاسم على المواقف السياسية، بحيث تفرض على أي فرد أو جماعة أن يختاروا بين هذا الطرف أو ذاك، أو أن ينحازوا إلى خندق محدد ضد خندق مقابل .
فالظلال والمناطق الرمادية التي أنتجتها الحرب الباردة أتاحت هوامش أو منطقة "لمبو" كما يسميها الشاعر دانتي صاحب "الكوميديا الإلهية" بين الفردوس والجحيم، أي بين الأسود والأبيض، لكن حروب هذا القرن التي دشنت الألفية الثالثة باختلالات صريحة وغزو مباشر وتدخل سافر في شؤون الدول حذفت الهوامش كلها . وإذا احتكمنا إلى ما يصدر من تصريحات عن رجال دين وجنرالات وساسة مؤدلجين حتى النخاع ندرك على الفور أن المسافة تلاشت بين القبول والرفض .
ففي إيران مثلاً ثمّة التباس تعززه تصريحات من مختلف المصادر، بحيث لا ندري هل هذه التصريحات تصدر عن دولة ثيوقراطية أم عن دولة برغماتية؟ وعن دولة حديثة تسعى إلى التعايش أم عن إمبراطورية مصابة بنوستالجيا التمدد والهيمنة، لهذا فأصل المشكلة هو في هذه التصريحات التي لا تنبئ عن حُسن النوايا رغم أن إمكانية التصريح بما يناقضها متاحة، ولها مجالها الدبلوماسي الدافئ .
وقدر تعلق هذا بموقف العربي الذي لم تدفعه كل حالات الهشاشة المؤقتة والأنيميا القومية إلى التفريط بهويته لأنها تقطّرت من تاريخه وأصبحت سرّ بقائه في هذا الكوكب . وثمّة فارق حاسم بين الإفراط في التسامح من أجل التعايش السلمي وبين التفريط بأعزّ المقتنيات وهي الرّوح ذاتها .
ولو عدنا لتصفح التاريخ بحثاً عن أنماط الحروب فيه لوجدنا أن حروب الهوية والوجود كانت أقساها لأنها ليست حروب حدود أو أفكار بقدر ما هي حروب مصيرية يترتب عليها محو هويات وانقراض لغات وثقافات لمصلحة هويات وثقافات أخرى .
أمّا أحدث التقنيات لتدمير دول واختطافها فهي هذه "الملشنة" التي تفكك الدولة والجيوش تحت ذرائع هي بالفعل أباطيل ترتدي قناع الحقوق .
/نقلا عن الخليج/