محمد علي المحمود
هل تختلف الديمقراطية من حيث مفهومها النظري المجرد، ثم من حيث مُتَعيّناتها في الواقع المعاصر، عن ديمقراطية رجال الدين؛ كما تمثلت - واقعاً - في (الجمهورية الإسلامية الإيرانية)؟، بل هل ثَمّة ديمقراطية لرجال الدين، أي ديمقراطية يمكن أن تصدر عن رجال الدين، حتى خارج نطاق الفعل السياسي؟. ومن قبل ومن بعد؛ هل يرضى رجال الدين بوجود معارضة حقيقية لأنظمتهم وإداراتهم السياسية التي يرونها التجلي الواقعي لحقائق الأوامر الإلهية، خاصة وأن وجود المعارضة - من حيث هي تنويع سياسي - شرط جوهري للديمقراطية أياً كان نوعها، حتى ولو كانت ديمقراطية المُستبدين؟!.
لا شك أن المقالات السابقة أجابت عن شيء من هذا، وربما اتضح - من خلال العرض الموجز لأهم مجالس صنع القرار الإيراني - أن الديمقراطية الإيرانية ليست أكثر من احتيال شعاراتي يخفي حقيقة الاستبداد الثيوقراطي الراسخ في أصول النظام الإيراني الراهن. فحتى المعارضة الإيرانية الدينية التي تأخذ على النظام التوسع في صلاحيات الولي الفقيه، وبالتالي هيمنة الفقهاء، لا تنقض التصور الاستبدادي من أساسه، بل على العكس؛ تؤكد أن الأمر في النهاية لحاكم فرد يتربع على عرش الولايتين: الروحية والدنيوية، بوصفه: الولي الفقيه/ ولي أمر المسلمين!.
إن الديمقراطية الإيرانية ليست أكثر من احتيال شعاراتي يخفي حقيقة الاستبداد الثيوقراطي الراسخ في أصول النظام الإيراني الراهن. فحتى المعارضة الإيرانية الدينية التي تأخذ على النظام التوسع في صلاحيات الولي الفقيه، وبالتالي هيمنة الفقهاء، لا تنقض التصور الاستبدادي من أساسه، بل على العكس؛ تؤكد أن الأمر في النهاية لحاكم فرد يتربع على عرش الولايتين: الروحية والدنيوية..
هذا التوافق بين أطياف النظام على مرجعية الفرد في حال التضاد مع مرجعية الجماهير، هو ما يؤكده منتظري، مع كونه أكبر الفقهاء الذين ناضلوا للتخفيف من دكتاتورية النظام، إذ على الرغم من جنوحه الواضح لتحقيق قدر أكبر من الشراكة الشعبية في القرار السياسي، إلا أنه لا يترد في أن يقرر تضخيم دور الحاكم في مقابل دور الأكثرية الجماهيرية. يقول منتظري: "مع أن الحاكم هو المسؤول بعد استشارة الفقهاء، فإن الحكم الفصل لرأيه ولا يلزمه اتباع الأكثرية" (إيران بين ثورتين، ص16). وكما يعلم الجميع؛ إذا سقط اعتبار الأكثرية – كمُلزمة في العملية التشاورية - سقطت الديمقراطية من أساسها. وهنا تظهر جوهرية التضاد بين الرؤية الدينية السلفية (على اختلاف مضامينها المذهبية) وبين الديمقراطية كفلسفة وكممارسة، إذ لا يخفى أن الرأي القائل بأن الشورى مُعلِمة؛ لا مُلزمة، هو رأي سلفي بامتياز، لا تختلف السلفية الشيعية فيه هنا عن السلفية السنية عبر التاريخ، خاصة في أصل المبدأ؛ رغم الاختلاف في كثير من التفاصيل.
إذن، هناك ما يشبه الإجماع بين أطياف التيار الديني الإيراني على رفض اعتبار رأي الأكثرية في مقابل رأي الفرد الحاكم من جهة إلزاميته. وقد تقرر هذا في دستور مكتوب. ف"الدستور الإيراني الذي صدر عام 1979م أُعطِي بموجبه آية الله الخميني صلاحيات مطلقة تفوق الصلاحيات التي كان يتمتع بها الشاه"(مصاحف وسيوف، رياض الريس، ص261). ومن هنا لا غرابة أن يُهيمن الولي الفقيه على كل شيء، ومن ورائه جوقة الفقهاء؛ لأن هذا يتسق مع منطق الرؤية الفقهية السلفية التي يحتكمون إليها، كما يحتكم إليها المعارضون من داخل النظام، سواء كانوا واعين أو غير واعين بهذا الاحتكام الذي يصدر في النهاية عن وَاحدية/ كُلية الوعي.
لهذا، من الطبيعي أن لا يجد الإصلاحيون، ومنهم المعارضون من داخل النظام (وهم الذين يدعمون هيمنة المحافظين من حيث لا يشعرون؛ عندما يتشرعنون في واقع الممارسة السياسية بالمرجعية المحافظة/ السلفية)، مجالاً لتحقيق أي نفوذ حقيقي من شأنه أن يؤثر – ولو بالدرجة التي تكفلها الشراكة – في تحديد وِجْهة القرار المؤثر اجتماعياً أو سياسياً. ف" المحافظون، الممثلون بمرشد الثورة علي خامنئي، يملكون كل مفاصل السلطة الحقيقية: القضاء – الشرطة والأمن – الجيش – السياسة الخارجية" (مصاحف وسيوف، رياض الريس، ص24). وبالتالي، فمن يتجرأ ويحاول المساس بهذا النفوذ الطاغي لرجال الدين/ المرشد؛ فمصيره النفي والإقصاء والتصفية المادية والمعنوية على أكثر من صعيد.
لكن، ومع كل هذا، فمما لا ريب فيه أن الحكم على التجرية الإيرانية (التي كثيراً ما نؤكد على أنها حُلم الأصوليات كلها، ومن هنا أهمية مقاربتها هنا) لا يكون مُقنعاً بمجرد استعراض موجز للدستور الإيراني، ولا لآليات عمل المؤسسات النافذة؛ لأن الإشكالية من أساسها لا تتحدد في النموذج الإيراني فحسب، بل ولا تبدأ به، وإنما هي إشكالية تمتد إلى عمق التصورات السياسية ذات الطابع الديني، تلك التصورات التي لا تختص بدين ولا بمذهب، وإنما تصدر عن كل الأديان وعن كل المذاهب على اختلاف مضامينها، ومن ثمّ، عن كل محاولات إدارة الزمني باللازمني، والمقيد/ المحدود/ النسبي بالمطلق.
إن الحكم على النموذج الإيراني لا بد أن يكون تفصيلياً، كما لا بد أن يكون هذا التفصيل إشكالياً أو مُؤشكلاً؛ لأننا أمام حالة سياسية (تلفيقية) على أكثر من مستوى، حالة ترسّبت فيها عُقد التاريخ، وضرورات المرحلة، ونتائج المثاقفة، وتحديات الاندماج الحضاري. ومن هنا، فنحن أمام حالة مُعقّدة، و- في الوقت نفسه - حالة غير مسبوقة، بحيث لا يمكن إطلاق الأحكام الناجزة بحقها بناء على تجارب سابقة عليها. فنحن مهما اختلفنا حول هذه التجربة؛ لا نختلف على حقيقة أنها "أول نظام ديني في العالم المعاصر"(حلف المصالح المشتركة، تريتا بارزي ص121)، بكل ما يعنيه انفرادها بالخروج من السياق العالمي/ الكوني الذي هو خروج عن منطق التاريخ، ولا نختلف على أن الهيئة المرتبطة برجال دين (= إكليروس)، هي أول نظام ديني في تاريخ الإسلام.
لا يوجد ما يشبه الجمهورية الإيرانية، حيث رجال الدين يصوغون – بأنفسهم - تفاصيل النظام، ويحكمون - بأنفسهم - مباشرة. هي حالة فريدة، ففي التاريخ الإسلامي الشيعي لم يكن من المقبول دينياً إقامة الدول، إذ هي من المحرمات، بوصفها افتئاتاً على مقام الإمامة المرتبطة بأعيان محددة؛ فبقي دور الفقهاء إرشاداً وحسبة وقضاء فيما دون الحدود التي هي من مهام الولاية العامة، وبقي طموحهم لا يتعدى هذا المجال الإرشادي والاحتسابي.
كذلك الأمر في التاريخ الإسلامي السني، فمنذ انفصال الإدارة السياسية بشكل صريح ومُعلن عن التراتبية الدينية، وانفصالها عن المرجعية الدينية بشكل مُتضمّن/ مُضمر عام 41 ه، لم يكف رجال الدين عن التشوف إلى أدوار سياسية تصنع لهم ولو شيئاً قليلاً من الهيمنة في الفضاء العمومي. لكنهم لم يطمحوا في الوصول إلى الإمساك بزمام السلطة بشكل مباشر. نعم، ربما حاول بعضهم، ولكن التاريخ لم يرصد أية بادرة نجاح على مستوى الممارسة السياسية المباشرة، خاصة بعد ظهور رجال الدين كطبقة اجتماعية مُتَمَايزة بحضورها الخاص منتصفَ القرن الثاني الهجري. بمعنى أن طموح رجال الدين السنة تواضع بعدما تعلمنت السلطة بالتواقت مع ابتداء العصر الأموي؛ لينحصر نشاطهم السياسي في محاولات الهيمنة الناعمة المستجدية التي تتوسل المعرفة/ العلم الشرعي؛ كي تُؤسّس لحضورها الخجول كرديف للسياسي، ولو من خلال المعارضة الشعبية التي ليست أكثر من إثبات وجود في كثير من الأحيان.
لكن، ولأن المعارف التي يتوفر عليها علماء السنة كانت فقيرة سياسيا (كما كانوا يعرفون عن أنفسهم، وكما يعرف عنهم الحُكّام المتنفذون)، ولأن فقرها في التظير السياسي جعلها كاسدة في السوق السياسي آنذاك؛ فقد عمدوا إلى مزج المعرفة الدينية الأثرية بالمعارف الثقافية السائدة، خاصة ما يتعلق منها بأمور الإدارة السياسية والتشريفات. يقول الباحث المغربي/ علي أومليل عن هذه التطلّعات السلطوية التي لا تُفصح عن نفسها صراحة في السياق الديني:"والواقع أن وراء هذا كله محاولة مستمرة للفقهاء للإبقاء على نفوذ لهم داخل الدولة لضمان صدارتهم العلمية، بأن يجمعوا، إلى جانب علمهم بالشريعة شذرات نافعة من علم السياسة" (السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص138). ومن هنا لم يكن غريباً أن تخرج الآداب السلطانية – في كتبها المُؤسِّسة تحديداً – بأقلام الفقهاء المتقاطعين – تَمَصْلحاً – مع الأمراء والوزراء؛ في محاولة لتقديم أنفسهم لهؤلاء المتنفذين كمؤهلين للشراكة السياسية، ولو في حدود المناصب الاستشارية، التي لا تحمل أي قدر من الشراكة الحقيقية؛ لأنها لا تحمل أي قدر من الإلزام.
لهذا، كانت الحالة الإيرانية الراهنة استثنائية. وهذه الاستثنائية (= أن يحكم رجال الدين مباشرة) لم تكن خافتة ولا باهتة، بل كانت فاقعة الألوان في إيران الخميني، ولهذا لاحظها معظم الباحثين، ونصّوا عليها في أكثر من سياق. عندما تحدث نوح فيلدمان عن تجربة الدولة الإسلامية عبر التاريخ، تحدث عن التجربة الإيرانية، وأكد هذه الفرادة/ الغرابة بقوله: "فكرة أن يحكم العلماء مباشرة باعتبارهم طبقة فكرة لم يسبق لها مثيل في التاريخ الإسلامي"(سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها، ص169). ويلاحظ غسان طعّان هذه الغرابة التي تتضمن شيئاً من محاولات الجمع بين المتناقضات السياسية – فضلاً عن الإشكاليات الكهنوتية – التي لم يسبق الجمع بينها؛ فيقول: "أما الغريب في الأمر، فهو كون التاريخ لم يتعرف إلى تجربة مماثلة. قائد أعلى معصوم وغائب. أما الحاكم الفعلي فإنسان عادي. لكن بصلاحيات مطلقة"(التغرُّب في الثقافة الإيرانية الحديثة، غسان طعان،237). وهذا يعني أن الغرابة ليست محصورة في استثنائية التجربة فحسب، بل هي – أيضاً - في التناقض المرتبط بشخصية الحاكم؛ هويةً وتوصيفاً وصلاحيات. فأنت في هذه التجربة أمام بشرية غير معصومة؛ إلا من جهة كونها منتسبة إلى معصوم؛ فيلحق – حينئذٍ - الدنيوي النسبي بالديني المطلق؛ لا ليكتسب قداسة ماورائية فحسب، وإنما لتدعم هذه القدسيةُ ذات البُعد الإطلاقي تغوّلاً استبدادياً واضحاً يدّعي أنه يحكم عالمي الدينا والآخرة في آن.
عندما نتحدث عن غرابة النموذج الإيراني في مسار التاريخ الإسلامي وفي مسار الراهن العالمي، فلا يمكن أن نُغفل أن هناك مِن الباحثين مَن يربط هذه الفرادة/ الغرابة بخصوصية إيرانية تضرب في عمق التاريخ أو في عمق المذهب. مصطفى اللبّاد أحال هذه الخصوصية إلى تاريخ ما قبل الإسلام، فقال في مُفتَتح كتابه عن إيران: "ترتبط الحياة السياسية في إيران ومن آلاف السنين برجال الدين"(حدائق الأحزان، ص17). وهو لا يتوقف عند التأكيد على الهوية الدينية للنظام فقط، بل يؤكد أن (نظرية ولاية الفقيه) التي تربط - بإحكام - البشري بالحق الإلهي، والتي تنتظم هيمنة رجال الدين في إيران، ليست خارج فضاءات التصور الشعبوي الإيراني، "فالنظرية تنسجم في فرضياتها الأساسية مع الوجدان الإيراني والشيعي معاً. فالحق الإلهي للحاكم كان علامة مميزة في تاريخ الإيرانيين منذ عصر الدولة الإشكانية والساسانية مروراً بالدولة الصفوية والقاجارية وحتى دولة (ولاية الفقيه) الآن"(حدائق الأحزان، ص139). وبهذا تنتفي الغرابة - أو جزء منها - عن هذه الحالة الاستثنائية؛ لأنها ستبدو مجرد تمظهر معاصر لحقيقة ثقافية قارّة، تمتد جذورها لما هو أعمق من المقولات الدينية الصريحة، تلك المقولات التي ستصبح هنا مجرد شرعنة ظاهرية لحقيقة النفوذ التاريخي المعطى لعالم الغيب/ الغنوص على حساب عالم الشهادة.
ولأن الاستثنائية بطبيعتها ظاهرة معاندة للطبيعي والسائد؛ فستحاول – كيما تعبر عنق زجاجة الاستحالة – أن تكون مُحمّلة بأكبر قدر من التوافقية، وعلى كل المستويات. ومن هنا يبدو الحال، وخاصة في مرحلة انتصار الثورة، وبداية تأسيس الجمهورية، كما لو أن رجال الدين يُحاولون الجمع بين المستحيلات/ المتناقضات؛ حتى لا تفلت الأمور من أيديهم. ولا شك أن هذه المحاولات أورثت حيرة وارتباكاً على الرغم من الحسم الأصولي، إذ يحاول رجال الدين أن يظفروا بتأييد الأجيال الشابة كضمانة للاستمرار في الحكم، أو على الأقل كضمانة لعدم تعكير صفو الهيمنة المطلقة التي يتمتعون بها. فإيران رغم عزلتها أو عزلة حكومتها لن تستطيع الانعزال تماماً، كما لن تستطيع الانعزال إلى ما لانهاية؛ لأن "إيران اليوم هي أمة تبحث عن هوية، دولة تتقلب بين وعود عصرية ديمقراطية وتقليدٍ متقهقر"(نشوء الإسلام السياسي الرديكالي وانهياره، راي تاكيه ص67 ). والأجيال الناشئة مهما كانت متدينة، لن تستطيع التنكّر لعصرها، ولن تستطيع تجرّع سلفية الخميني المتضمنة في تفاصيل هذا النظام؛ مهما كانت إغراءات النكهات العصرية التي يراد بها التخفيف من عفونة الرؤى الماضوية التي تتجه بالاتجاه المضاد لحركة التاريخ، أي لحركة الحرية/ التحرر الإنساني.
/نقلا عن الرياض/