جهاد فاضل
بقلم : جهاد فاضل (كاتب لبناني)
من السهل الدخول في الحروب الأهلية ولكن من الصعب الخروج منها. وقد عانينا نحن في لبنان الكثير من واحدة من هذه الحروب وقد استمرت سبع عشرة سنة بالتمام والكمال، وتراخت بعد ذلك سنوات أخرى دون أن نتأكد أننا خرجنا منها بالفعل في وقتنا الراهن. ورغم مضي أربع سنوات على نشوب الحرب الأهلية السورية فليس في الأفق ما يشير إلى أنها ستضع أوزارها قريباً. بل إن كل الدلائل تشير إلى أنها لن تقبل بأن تكون الحرب الأهلية اللبنانية أطول منها عمرًا، خاصة أنه كان للحاكم السوري يومذاك دور بارز في إشعال الحرب اللبنانية وفي السهر على إطالة وقتها.
ويبدو أن اليمن هي الدولة العربية الجديدة التي تنزلق اليوم نحو حربها الأهلية دون أن تتمكن لا هي ولا أحد من العمل على نجاتها منها. فكل الظروف الداخلية تعمل في خدمتها، وفي الظروف الخارجية ما يشجع عليها أو ما لا يستطيع الحؤول دونها.
من الظروف الداخلية هناك الصراع المذهبي المستحكم بين زيود وشوافع والاحتقان التاريخي القديم بينهما الذي يجد اليوم في إيران وحزب الله اللبناني ما يرعاه ويشجع عليه بل، ويدفع به نحو نهاياته الفجائعية وهناك السلاح المتدفق على اليمن الذي يُشاهد على الفضائيات بالعين المجردة، وقد انتزع بعضه من ثكنات الجيش الرسمي الذي تفكك وانحل وفقد كل نفوذه وفعالياته.
ويترحم الكثيرون الآن على زمن الخنجر اليمني القديم الذي يضعه اليمني عادة كجزء من لباسه القومي أو كجزء من فولكلوره الموروث. فالظاهر أن هذا الخنجر قد اعتراه الصدأ ولم يعد له أي شأن في عالم الأسلحة الحديثة الفتاكة التي دخلت الآن كل بيت يمني.
وعندما توضع هذه الأسلحة بتصرف النفوس المشحونة بعبء التاريخ وصراعات القبائل والعشائر والمذاهب، ولا تُعطى للحكمة اليمانية فرصتها المطلوبة، يتعين علينا أن نتوقع اقتتالًا مرًا رهيبًا من نوع ما كان يحصل في الجاهلية قبل أكثر من ألف سنة، ومنها حرب البسوس التي دامت أكثر من مئة سنة والتي أعادها إلى الأذهان في زماننا الراهن الشاعر المصري أمل دنقل في عمل مشهور له.
ولا ننس الفقر والجهل ولهما دور وافر الأهمية في الحروب الأهلية، وإذا تعاونا كما يتعاونان الآن في اليمن، أمكننا توقع حرب أهلية تتجاوز مدة حرب البسوس، ولكن العامل المذهبي يظل أقوى العوامل وأكثرها فتكًا بالنفس، إن لم نقل إنه الأفيون الذي يفقد المرء عقله ووعيه ويوهمه بأن قتل عدوه، (وهو في الواقع أخوه في الوطن والدين)، أقرب المسالك إلى جنة عدن، وهي في الأصل يمنية.
في الظروف الخارجية، لا يشك أحد في كون مرجعية الحوثيين وهي خارج حدود اليمن، لها الدور الأكبر في المأزق الذي وصل إليه بلد الزيود والشوافع.
فالإيرانيون ذكروا أكثر من مرة، وعبر أكثر من تصريح، أنهم الآن ينتظرون الدخول إلى العاصمة العربية الرابعة بعد أن دخلوا آمنين ثلاث عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت. ولكن ليس في الأفق ما يدل على أن الدخول الرابع آمن. فصنعاء ليست مثل العواصم العربية الثلاث التي ذكرنا، ولعلها أكثر صعوبة.
فإلى اليوم ما تزال الأمهات التركيات تنحن (من النواح) على أبنائهن الذين قتلوا في شعاب اليمن زمن الدولة العثمانية. ولم تكن حملة عبدالناصر على اليمن أكثر توفيقًا. والحوثيون إذا كانوا قد وعدوا صاحب الزمان بنصر من الله وفتح قريب، قد لا تسعفهم الظروف -على الأرجح- بتحقيق ما وعدوا صاحب الزمان به. فاليمن ليس لهم وحدهم، بل لجميع اليمنيين.
وغير الحوثيين لا ينبغي أن يُستهان بهم أو أن لا يُحسب لهم حساب. واليمن في نهاية المطاف يقع في شبه الجزيرة العربية وفي طرف بعيد جدا عن إيران وسقوطه بيد الإيرانيين نهائياً دونه صعوبات.
إذا سأل أحدنا حوثياً (وكل حوثي هو زيدي والعكس صحيح أيضاً) عن عدد زيود اليمن قال إنهم يؤلفون أكثرية اليمن وأن الشوافع لا يزيدون عن عشرين أو ثلاثين بالمئة. وقد لا يختلف جواب الشافعي كثيرا عن جواب الحوثي، فهو يرى أن اليمن شافعي وأن الزيود أقلية. ولكن في غياب أي إحصاء دقيق حول عدد أفراد هذين المكونين الأساسيين أو الوحيدين لليمن، لابد من اعتماد مقاربة أخرى تقضي باعتبار اليمن حصيلة مكونين اثنين متساويين في العدد وفي الاعتبار.
والواقع أنه لا لزوم لأي إحصاء. فاليمن لجميع أبنائه وأبناؤه جميعًا متساوون، وعليهم أن يلجأوا إلى "الشورى" فيما بينهم، أو إلى ما تسميه الأدبيات السياسية المعاصرة "بالحوار" وهو متاح اليوم وفي كل يوم ومن شأن إعماله والقبول بنتائجه ما يوفر الكوارث. ولكن ما الحيلة وصاحب الزمان وعد نفسه بالعاصمة العربية الرابعة، وبخاصة بباب المندب بعدما قبض قبضا محكما على مضيق هرمز؟
الحوثي يظن أن صاحب الزمان مهتم بشؤون العقيدة والمذهب وأن نصرته له وتزويده إياه بالمال والسلاح مرده الأخوة في التشيع وهو لا يحسب حسابا للأطماع الإيرانية في البلاد العربية وللصراع التاريخي القديم بين العرب والفرس. يقفز الحوثي آلاف الأميال من أقصى جزيرة العرب ليلتقي بالفارسي متصورا أنه أقرب إليه من السعودي والخليجي والعربي الآخر. وهي نظرة غير صحيحة والصحيح هو أن الفارسي يستخدم الحوثي لتحقيق مآربه عن طريق إيهامه بأن عدوه الحقيقي هو العربي الآخر، في حين أن الحوثي بالنسبة للفارسي ليس سوى أداة أو وسيلة لاغير. والصراع بلا شك ليس صراعا مذهبيا بين العرب والفرس وإنما هو صراع قومي في جوهره كان كذلك في الماضي وهو كذلك اليوم.
على أن المخاطر لا تقف عند حدود اليمن وضمان وحدته الوطنية، بل يتجاوز ذلك ليصل إلى المتغيرات الاستراتيجية ذلك أنه فضلا عن احتمالات التقسيم وانفصال اليمن الجنوبي مرة أخرى، فإن تحولا كبيرا له أبعاده الاستراتيجية والجيوسياسية سوف يلحق بمنطقة شديدة الحساسية.
ونعني بذلك التأثيرات المحتملة على وضع باب المندب والسيطرة عليه، وكأن إيران لا تكتفي بوضعها المتميز في مضيق هرمز، بل تطمح إلى خنق المنطقة العربية من جوارها الأفريقي بالتحكم بباب المندب وبالتالي بالبحر الأحمر كله خصوصا بشواطئه من الدول العربية المطلة عليه، وهي السعودية ومصر والسودان، والأردن أيضا سوف يستطيع من يسيطر على باب المندب أن يتحكم بقناة السويس هي الأخرى.
لذلك فإن خطورة ما يجري في اليمن تتجاوز ما قد يوحي به ما يطفو على سطح الأحداث. تلك هي قمة جبل الجليد، كما يقولون ، ولكن أعماقه تنطوي على أضرار بالغة يمكن أن تلحق بدولة الخليج ، بل والدول العربية كلها.
عبدالملك الحوثي لا يملك تجربة سياسية ذات شأن والبعد العربي في شخصيته بعد فقير وهو يبدو غريب الوجه لا في أندية دول الخليج والجزيرة العربية بل في النادي اليمني ذاته. إنه يتصور وهو الفارق في الثقافة الزيدية أو المذهبية، والمرتبط أوثق ارتباط بغرفة العمليات الواقعة في طهران أو في الضاحية الجنوبية من بيروت أن في الصيدلية الإيرانية البرء والشفاء لكل ما تشكوه اليمن من علل في حين أن هذه الصيدلية بحد ذاتها عله تضاف إلى علل اليمن وما أكثرها . ويتمثل الحوار برأينا في العودة إلى البيت الخليجي والعربي واعتماد مقارباته أما الاستسلام لتوجيهات اللاسلكي التي تربط بين صعدة وغرفة العمليات التي أشرنا إليها فلن يزيد اليمن إلا بؤساً وخراباً.
/الراية/