روجر أوين
دخلت أميركا عطلة نهاية الأسبوع الماضي التي صادف فيها عيد الشكر التقليدي، وهي تحمل جروحاً عميقة نتيجة مواجهة عنيفة أخرى مع العنصرية تحوّلت إلى أعمال شغب في بلدة فيرغسون. وتولّت طائرات مروحية مهمّة تصوير هذا الحدث الذي حصد نسبة مشاهدة عالية على التلفزيون. قبل دقائق كنا نشاهد شارعاً ينعم بالسلام ويعج بالناس الذين ينتظرون سماع الحكم الذي ستُصدره هيئة المحلفين في شأن إقدام شرطي أبيض على قتل شاب أسود غير مسلّح، وفجأة بدأنا نرى قنابل الغاز المسيّل للدموع تنهمر على الحشد الذي راح يتصرّف بعدائية بعد أن صدر قرار الشرطة الذي اعتبر هذا التجمّع غير قانوني.
فجأة علت الهتافات والأصوات، ومنها صوت الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي بدت أمارات الانزعاج عليه، والذي دعا إلى الهدوء. ومن ثمّ، جاء مواطنون آخرون كانوا سوداً بمعظمهم، قالوا صراحةً أنّهم كانوا يتوقعون مهزلة العدالة هذه، في بلد لم يحرز تقدماً كبيراً في العلاقات العرقية منذ اندلاع أعمال شغب مماثلة في نيو آرك في نيوجيرسي عام 1967. وللمفارقة، كانت هذه لحظة مهمّة بالنسبة إليهم، فقد أصرّوا على استغلال هذه المناسبة للتعبير عن الرأي ذاته مراراً وتكراراً، وكأنه لا يسعهم سوى استخدام أصواتهم لإيصال رسالتهم. وكانوا يرددون، «لا تتكلموا نيابة عنا بعد الآن ولا تخبروا شعباً مقموعاً كيف يكون مقموعاً».
وتبدو العبودية، شأنها شأن ظهور ديك الحبش الأوّل لدى المستوطنين البيض في عيد الشكر، جزءاً راسخاً من التجربة التاريخية الأميركية، وهي تتسبب بانقسام في مجتمع، يُعامَل فيه الأشخاص على أنهم سود بالكامل إذا لم يكونوا بيضاً بالكامل. فعلى رغم إشارات أوباما إلى «أصحاب البشرة الملونة» الذين أغضبهم الحكم بتبرئة الشرطي الأبيض، فإن أوباما لا يزال يوصف بأنه الرئيس الأميركي الأوّل «أسود البشرة».
ومن ثمّ، هناك روابط ثابتة بين البشرة السوداء والفقر، وبين البشرة السوداء والتربية السيئة، وفي بعض الأحياء الأكثر فقراً في المدن الكبرى بين البشرة السوداء والبطالة بين الشباب ونسبة الجرائم، مع العلم أنّ هذا الرابط لا يزال يقاوم التغيير لأسباب عدّة. لماذا يصاب البعض بالصدمة حين يعلمون من استطلاع «هافينغتون بوست» أنّ ثلثي الأميركيين من أصل أفريقي يعتبرون أنّ الضابط ويلسون الذي أطلق النار مذنب، في حين أنّ 20 في المئة فقط من البيض هم من الرأي نفسه؟
للإجابة عن هذا السؤال، يجب الاستناد جزئياً إلى أنّ هذه الحقائق تتعارض مع وجوه عدّة من القصة التي يرغب معظم الأميركيين، بدءاً بالرئيس نفسه، روايتها عن الولايات المتحدّة، واصفين إيّاها بملاذ المضطهدين من كل أنحاء العالم، وبمكان للمواطنة الجيدة والفرص المتساوية للجميع. فالواقع أنّ هذه القصة هي الواردة أيضاً في معظم كتب التاريخ التي يدرس فيها الطلاب في مدارس الدولة الأميركيّة، التي أسسها رجال بيض، ومع أنّ بعضهم كانوا يملكون عبيداً، فقد نجحوا في تخطي هذا الواقع المؤسف لمصلحة هدف سام أوصى به الله. وبالتالي، يبدو أنّ عدداً قليلاً منهم فقط يعرف أنّ ثالث المبادئ المذكورة في الإعلان الأصلي عن الأهداف الوطنية لقيام الأمم المتحدة، أي «الحياة الحرّة والسعي لتحقيق السعادة»، كان من المفترض أن يكون «حماية الممتلكات»، في وقت كانت الممتلكات تعني العبيد والأرض في آن.
وليس الواقع مختلفاً فحسب، بل تربطه علاقة وثيقة بحالة معيّنة، لا يكفي أن يكون رجال الشرطة فيها بيضاً بغالبيّتهم، فهم أيضاً يحملون مسدسات، وقد برّر لهم القضاة والمحلّفون استخدام هذه الأسلحة في كلّ قضية قانونية برزت حتى الآن. وفي المواقع التي يظهر فيها انقسام عميق من هذا القبيل، يرجّح وجود انعدام كبير في الثقة، بسبب الغياب شبه الكامل للتفاعل والتفاهم بين المجتمعات، ما يبرّر الهتافات والتصميم الكبير الذي أبداه الأميركيون السود من أجل التعبير عن رأيهم في إحدى هذه المناسبات النادرة، التي يستمع فيها البلد برمته إليهم، ويمكن أصواتهم أن تُسمع فعلاً لبضعة أيام على الأقل.
إلا أنّ التعبير عن الغضب من خلال الهتافات هو شيء، والهجمات التي نفّذها بعض المتظاهرين السود شيء آخر. وبالنسبة إلى الرئيس نفسه، وإلى عدد كبير من صنّاع القرارات والمعلقين الإعلاميين، هنا يكمن الخطّ الأحمر، لا سيما أنّ البعض يفترض أن أي تجمّع للسود سيشارك فيه مشاغبون يسعون إلى سلب الممتلكات وحرقها.
أما أنا، وحتّى بعد أن زرت أميركا مراراً وتكراراً منذ أن كنت في سنّ العاشرة، وبعد أن عشت فيها على مدى عشرين سنة ونيّف، لست واثقاً على الإطلاق من أنني أعرف سبب هذا الحادث. فلعلّ الليبراليين البيض يخشون أن يتمّ اعتبارهم متساهلين مع الجرائم التي يرتكبها السود. وقد يفسره آخرون من منظار تآمري، على أنه مجرّد قضية انقسام وحكم. لكن على أي حال، يعدّ ذلك دليلاً على وجود مجموعة من الانقسامات العميقة التي لا يمكن حلّها، تسود فيها أفكار مدعومة من سلسلة قصص فردية، وأخبار وروايات يتم تناقلها شفهياً، تؤدّي جميعها دوراً كبيراً في أوقات الأزمة، فتشكّل فرصة للبعض، ومصدر يأس واكتئاب للبعض الآخر. وما يزيد الأمور سوءاً هو وجود أدلّة شبه يومية على أنّ ذلك لن يستمر فحسب، بل إنّ قيادة الرئيس كانت غائبة في هذه الحالة حيث كان يجب أن تظهر أكثر من أي أزمة أخرى.
* أكاديمي بريطاني - جامعة هارفارد
*صحيفة الحياة