باسل أبو حمدة
ينطوي التاريخ السياسي للشرق الأوسط الكبير، الذي يتمادى في إرخاء ظلاله القاتمة على حاضر المنطقة ومستقبل مجتمعاتها كيانات وأفرادا، على الكثير من المغالطات الكارثية، التي تزدري الحقيقة وتشوهها وتلونها وفق مشيئة من يتربع على عرش السلطة، لكن أخطر تلك المغالطات يمكن التعبير عنه بمفردة واحدة لا غير، ألا وهي الانقلابات والقطع مع الماضي والمستقبل في آن، بحيث تبدو التجارب السياسية القائمة يتيمة أو جزرا معزولة بلا حدود تربطها بالتاريخ وبالمستقبل، نابذة بصورة عبثية ما سبقها وما سوف يتبعها من نماذج سياسية، طاوية بقوة الحديد والنار صفحات تاريخية مفصلية يدار الظهر فيها لحقائق حية وموضوعية، لا تمكث طويلا حتى تصاغ من جديد على قاعدة المطلق وإنعاش أبعادا ميثولوجية أو غيبية بعيدة كل البعد عما تنطوي عليه من جوانب موضوعية علمية، مولدة بذلك المزيد من القراءات الكارثية لحقائق التاريخ السياسي للمنطقة، قراءات تقود بالضرورة ودائما إلى كوارث حقيقية تدفع ثمنها الشعوب.
مشهد عبثي تتوالى فصوله تباعا مقدما العديد من النماذج الصارخة والأدلة الفاقعة على تشويه ماهيات الصراعات الدائرة وحرف بوصلتها باتجاهات مغايرة للحقائق التاريخية الثابتة، ومتعارضة مع عناصر نشأة تلك الصراعات، بدءا من المشروع الصهيوني العالمي وانشاء كيان سياسي له في فلسطين المحتلة، الأمر الذي قيل وكتب الكثير حول جوهره السياسي الذي عمد إلى تغليفه بغلاف ميثولوجي لأسباب باتت أكثر من معروفة على نطاق واسع في الأوساط السياسية والفكرية، وحتى الشعبية حول العالم بغض النظر عما إذا كانت تلك الأسباب تفعل فعلها من عدمه عندما يتعلق الأمر في التعامل مع الكيان السرطاني الوليد عنوة، وفي تعارض صارخ مع حقائق المنطقة التاريخية، ذلك أن المنطق السياسي الذي تقوم عليه القراءات السياسية، في هذه الحالة، لا تقوم على قوة المنطق بقدر ما تقوم على منطق القوة والقوة فقط، وسياسات فرض الأمر الواقع، وفق مشيئة القائمين على هذا المشروع ذي الطابع السياسي بامتياز، على الرغم من كل تلك المنظومة اللاهوتية التي تغلفه وتدحرجت فصولها منذ الدعوات الأولى إلى إنشاء وطن قومي ليهود العالم، وصولا إلى إقرار الحكومة الإسرائيلية الحالية مشروع قانون يهودية الدولة بطابعه العنصري الفج.
وعلى الرغم من خطورة هذا الفصل من هذا المشهد العبثي الممعن في قلب حقائق التاريخ، إلا أنه ليس الفصل الوحيد، الذي من شأنه أن يمكن القارئ السياسي من الاقتراب أكثر فأكثر من إمكانية تفسير حالات الاستعصاء المزمنة لمجمل أزمات المنطقة، فعندما يصار إلى تشويه حقيقة ما يجري من صراع في عدد من الدول العربية وغير العربية التي طالها النفوذ الإيراني ووصفه بأنه صراع طائفي بين السنة والشيعة، فإن ذلك يعني، بدوره الإمعان في اعتماد قراءات خاطئة لهذه المرحلة من التاريخ السياسي للمنطقة، مثلما يعني حالة من الانقلاب على حقيقة تاريخية مفادها أن الثورة الايرانية التي أطاحت بحكم شاه ايران محمد رضا بهلوي عام 1979، وعلى الرغم من التناقض الظاهري بين النظامين السياسيين الإيرانيين السابق واللاحق، إلا أن مخرجات الثورة الإسلامية في إيران تبقى في حدود التفاعلات السياسية الداخلية الصرفة، التي لا تطال التوجهات السياسية الايرانية الخارجية في محاولاتها لمد نفوذها إلى خارج حدود إيران الجغرافية، تحت راية المفاضلة التعبوية الزائفة بين الطائفتين السنية والشيعية، فبينما يسعى نظام الملالي في إيران إلى لعب دور شرطي المنطقة حاليا، فإن نظام الشاه لطالما لعب ذلك الدور فعلا.
منطق تعج صفحات التاريخ بنماذج منه، ولا يستبعد حتى المطامع العثمانية خارج حدود الدولة التركية، ودائما من خلال رفع الشعارات الغيبية نفسها، سواء كان ذلك بصورة علنية أو سرية أو مبطنة، وعلى الرغم من مكامن القوة فيها، إلا أنها لا تشكل، في أي حال من الأحوال، العنصر الحاسم في جعل تلك المطامع تبصر النور، فحتى الأفكار والمثاليات السامية تحتاج عادة إلى أدوات سياسية وعسكرية قوية تكفل لها إمكانية البقاء والانتشار، لكن ليس بعيدا عن استغلال حالات الوهن السياسي على المستوى الوطني، الناجمة عن تلك الهوة في العقد الاجتماعي التي تفصل بين الحاكم والمحكوم، ما يشكل نوعا غير مرئي من الفراغ السياسي الذي تدلف من خلاله القوى الخارجية وتبسط نفوذها عن طريق المواءمة بين القوة الناعمة والقوة الخشنة.
وبالعودة إلى النموذج الإيراني بالمعنى السياسي القومي وليس الغيبي الميثولوجي، الذي يعد أحد أهم العناصر وأكثرها تأثيرا في مجمل صراعات المنطقة على غرار ما يجري في العراق وسوريا ولبنان واليمن وحتى بعض الدول الخليجية، يتبين أنه ثمة مشروع سياسي موصوف يمتلك ما يلزم من أدوات القوة لفرض نفسه سياسيا وأمنيا خارج حدوده القومية، في مقابل غياب كامل لأي مشروع مواجهة للتمدد الإيراني من الجانب العربي، الذي يعول دائماعلى أدوات وأجندات إقليمية ودولية، تعمل وفق ضوابط وآليات ومصالح خاصة بها تتقاطع أحيانا مع المشروع الإيراني نفسه، وأحيانا أخرى مع الرغبة العربية في مواجهة عرجاء لذاك المشروع، وربما هذا ما يفسر المدى الزمني الطويل والمتعرج الذي تمكنت إيران من فرضه على طاولة المفاوضات الدولية المتعلقة بملفها النووي، التي ستفضي على الأرجح إلى صفقة يحدد معالمها الرئيسية ميزان القوى الجديد الذي تحاول إيران فرضه على المنطقة، اعتمادا على مجموعة لا يستهان بها من المتغيرات والمنجزات التي حققها النظام الإيراني منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن.
لا يكتمل هذا المشهد العبثي إلا بإضافة نوع آخر من التشويه السياسي لحقيقة ما يجري في المنطقة وما تشهده من محاولات مستميتة لحرف مسار التغيير الســـياسي القادم على أجنحة الربيع العربي، بعد أن نجحت قوى الثورة المضادة، ولو إلى حين، من الإمساك بزمام المبادرة والعودة إلى سدة الحكم (مصر) أو البقاء فيها (سوريا) أو خلط الأوراق ومحاولة محاكاة التجربة المصرية (ليبيا واليمن) أو حتى تأخير مسيرة العـــمل الديمقراطي (تونس)، حيث تتمادى هذه القـــوى في محـــاولات استبدال شعار إسقاط الطغاة وترســيخ دعائم دولا مدنية عمادها القانون والمواطنة والحرية والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة بشعار زائف يدعي محاربة ما يسمى بالإرهاب، بينما الحقيقة تشي بأن هذا الشعار لا يعدو كونه ستارا يتلطى خلفه أعداء الديمقراطية وأعداء الربيع العربي.
هي دعوة للتخلص قدر الامكان من تلك التشويهات الإنقلابية وما يترتب عليها من تضحيات جسام على طول خريطة المنطقة وعرضها، دعوة تقوم على معادلة بسيطة وواضحة وضوح الشمس ولا تحتمل حشر عناصر غريبة عن واقع الصراع السياسي على السلطة والنفوذ، ولا تحتاج إلا إلى وقفة مع الذات وإعادة قراءة المشهد السياسي من جديد، على أساس الاعتراف بضرورات التغيير السياسي والتداول السلمي للسلطة داخل بلدان المنطقة، وهذا أخف الشرور بالنسبة للأنظمة الاستبدادية وخيار الشعوب الرازحة تحت نيرها منذ عقود من الزمن، دعوة إن لم تلق آذانا صاغية من قبل صانع القرار العربي، فإن صيغة جديدة للنظام السياسي الإقليمي تتربع على عرشه إيران بالشراكة مع الدولة العبرية أصبحت على مرمى حجر من المنطقة، لا بل إن أوان تداركها ربما قد فات بعد أن فرضت نفسها على أرض الواقع في انتظار الإعلان الشكلي عن ولادتها.
*القدس العربي .