أثنى الكثير من النقاد على حبكة الفيلم، الجمهور تسمر مشدوهاً بأداء وحنكة البطل، الذي يؤدي دوره في مهارة «حائك سجاد»، وببسمة مواربة تشبه باباً نصف مفتوح، يؤدي إلى مشاهد أخرى من فيلم عنوانه «بطل على أنقاض مدينة»، قام بدور بطولته النجم الإيراني الشهير، قاسم سليماني.
يقول خبراء صناعة السجاد والسينما إن الإيرانيين بارعون في السوق والمسرح، وإنهم ينتظرون إلى أن تحلب البقرة، ثم ينقضون على القدح الممتلئ. لكن تلك ليست القصة، الجزء الأكبر من الرواية أن هناك رضى كبيرا عن دور بطل الفيلم، لأن هذا الدور تماهى مع حبكة الفيلم الذي يعد الأكثر رواجاً خلال السنوات الأخيرة.
هناك أحداث مزلزلة في الفيلم، كان فيها سلوك البطل متطابقاً مع سلوك أبطال الـ»كاوبوي» الملعونين في الأدبيات السياسية الإيرانية، لدرجة لا يمكن معها أن نعزو هذا التطابق إلى المصادفات، أو التقاء مصالح آني، قدر ما يمكن الاطمئنان إلى تفسير يعتمد على رؤية أبعد، تكون إيران فيها رأس حربة مشروع يقوم على ضرب الدول العربية، وخلخلة النسيج الاجتماعي لشعوبها بشكل باعث على الذهول.
قتال البطلين: الأمريكي والإيراني – جنباً إلى جنب – في العراق وسوريا ليس مجرد التقاء مصالح آنية، قدر ما هو عمل مدروس، يأتي ضمن مشروع أوسع لا تعدو طهران فيه أن تكون مجرد أداة لضرب البنى الثقافية والسياسية والاقتصادية العربية، للقضاء ليس على المنظومات السياسية، ولكن لتفتيت الأنسجة الاجتماعية في المنطقة العربية، وإفراغ الحواضر العربية في بغداد ودمشق والموصل وحلب وحمص من نسغها العربي.
والسؤال هنا هو: هل كانت إيران تعي أنها أداة في يد المشروع الذي تقول إنها تحاربه؟ أم أنها كانت مندفعة بعمى إمبراطوري وبدافع غرائزي، يشكل مزيجاً من الحقد والطمع والتشفي، لتكون أداة تخريب في جوارها العربي؟
أغلب الظن أن إيران كانت تدرك أنها تنفذ ما يريده صانع التحولات في منطقتنا، لكنها كانت ترى تطابقاً في الاستراتيجيات بين مشروعها ومشروعه. لكن هذه ليست نهاية القصة، هذا مجرد فصل قصير جداً، أو لقطة سريعة من هذه التراجيديا المخضبة بالدم، وصراخ الضحايا، وغبار الحروب التي كان لإيران قسط كبير في إشعالها في المنطقة. واليوم يمر بطل الفيلم بمشهد آخر، وهو المشهد الذي يسدل الستار فيه على قاسم سليماني، واقفاً على أنقاض مدينة عربية ظاناً أنه قد أنهى معركته، قبل أن ينتبه إلى صواريخ إسرائيلية تدك قواعد جيشه، وتقتل خبراءه في قواعدهم في سوريا. هل أراد مخرج هذا الفيلم أن يقول هذه ليست النهاية؟ هل أراد أن يقول للبطل إنه سُمح لك أن تكون بطلاً بنظرنا نحن الذين صنعناك، ولكنك بعد أن أنجزت «المهمة البطولية»، يجب أن تعود ممثلاً عادياً ضمن أحداث فيلم الرعب الطويل؟ الطيران الإسرائيلي الذي يضرب الإيرانيين وحلفاءهم في سوريا يمر أمام الرادارات الروسية، وتراقبه «أس 400»، حتى يلقي حمولته على رأس قاسم سليماني، الواقف بدوره على أنقاض حلب الشهباء.
ما الذي يجري؟
يبدأ المشهد بمونولوج يظهر فيه مسؤول روسي كأنما يحدث نفسه، في تصريحات عن ضرورة «انسحاب كل القوات الأجنبية من سوريا»، وهي التصريحات التي أعقبت زيارة قام بها ممثل آخر اسمه بنيامين نتنياهو إلى موسكو، الأمر الذي بدا معه سليماني «متحسساً الريشة على رأسه». وتتوالى المشاهد قبل وبعد الضربة الثلاثية التي نفذتها أمريكا وبريطانيا وفرنسا على مواقع للنظام السوري، والتي كانت رسالة واضحة للبطل الملحمي الواقف على الأنقاض. في الفترة الأخيرة تصاعدت شكوى مسؤولين في طهران مما يسمونها «خيانة الروس» لهم في سوريا، مذكرين بتنسيق روسي تركي أمريكي، ومذكرين بتغاضي الروس عن ضرب مواقع لميليشياتهم في سوريا، وبالتنسيق مع تركيا للدخول إلى مناطق واسعة شمال البلاد. لكن الصدمة الكبرى لقاسم سليماني – الذي أدى في العراق دوراً أمريكياً بامتياز- كانت هذه المرة من بطل كبير في صلب حبكة السرد اسمه دونالد ترامب، الذي وإن دخل المشهد متأخراً، لكنه يقوم بدور «ملعون»، خرّب على جواد ظريف فرحة لقاءاته البهيجة مع طيب الذكر جون كيري، لوضع اللمسات الأخيرة للاتفاق النووي. انسحب ترامب من الاتفاق، وهرولت الشركات الغربية خارج إيران، وهرع ظريف إلى بروكسل، فطبطبت السيدة موغريني على كتفيه، لخسارته صفقة «السجاد» الفاخر في مزاد واشنطن. ليس في يد موغريني أن تفعل أكثر من ذلك، رغم «مشاغبات ماكرون»، على هامش المشهد، فالعاقل لا يدخل في مزاح مع الدببة ليسلي الجمهور. المحاولات الأوروبية لإبقاء الاتفاق النووي على أجهزة التنفس الصناعي في غرفة العناية المركزة ذهبت أدراج الرياح مع صفعة قوية من ترامب لأوروبا بفرض رسوم جمركية على السلع الأوروبية، الأمر الذي خطط له ترامب بعناية، ليجعل أوروبا تفكر بمشكلتها مع «الدب الأمريكي»، عوضاً عن الالتفات لتجارة السجاد مع طهران، وهكذا كان.
هل أدت إيران دورها بجدارة، وهل حان الوقت لمكافأتها على دورها التخريبي بإخراجها من المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط، كما فعل ملك قديم مرة مع سنمّار؟ ليس إلى هذا الحد. لكن الضربات التي تلقتها طهران مؤخراً تشير إلى أن المخرج يريد للبطل الإيراني دوراً آخر، دوراً هامشياً بعيداً عن نشوة السيطرة على «أربع عواصم عربية»، و»حدود إيران الممتدة من باب المندب إلى سواحل الأبيض المتوسط». لكن الفاتورة لا تقتضي مجرد تخلي إيران عن «طموحاتها النووية»، كما ذكر خامنئي محقاً، ولكنها تمتد إلى تقليم الدور الإقليمي لطهران، وتقليم مخالبها البالستية، وأنيابها النفطية والغازية. وبخروج أول قُلامة من أصابع «الحائك الماهر» بدأ الريال الإيراني يتهاوى، ومع تهاويه يخشى الحائك من تكرار مشاهد غير سارة في شوارع طهران وشيراز وأصبهان، وهذا في ما يبدو السيناريو المرسوم لإخراج البطل من مشهد البطولة، مع ذروة النهاية للفيلم الذي يعرض هذا الموسم، على شاشة عملاقة ممتدة من خليج عدن إلى الأبيض المتوسط، ومن اللاذقية إلى بغداد.
بقي أن نشير إلى مقولة لعلماء النفس تذكر أن بعض الممثلين يعانون فترات طويلة عقب تمثيل دور البطولة من استمرار سيطرة دور البطل عليهم حتى في حياتهم الواقعية، لأنهم تقمصوا الدور- أثناء التمثيل – إلى درجة يصعب عليهم فيها الخروج من دوائر الدور المرسوم.
هذا بالضبط ما يعاني منه بطلنا قاسم سليماني الذي ظن ـ في لحظة معينة ـ أنه قادر على صياغة الأحداث، ليجد نفسه فجأة مجرد بطل في فيلم رخيص، مارس فيه دور بطولة قذرة على حساب مقدرات وإمكانات وحواضر عربية شارك في إضرام حرائق التاريخ في جغرافيتها.
لم ينته الفيلم بعد، ولا نستطيع التكهن بنوعية النهاية التي يريدها هذا المخرج الدولي، لكننا اليوم أقرب إلى اليقين بأن طهران «الذكية» ما كانت ذكية بالقدر الذي ظننا وظنت نفسها، ولكن أريد لها أن تتوهم الذكاء لتوريطها في منطقة الرمال المتحركة، التي لابد أن إيران سوف تدفع فواتيرها المستحقة لاحقاً، حيث لا تنسى ذاكرة الرمل آثار من مروا عليه، وإن محتها الريح.