في اليمن إقطاعيات سياسية وقبلية مزمنة عملت على التضييق الممنهج لجهود بناء مؤسسات الدولة، وعلى خلق تمايزات اجتماعية ومناطقية أجهضت روح الاندماج الحقيقي على قاعدة المساواة والحقوق الدستورية.
رافق ذلك ضمور كبير في مسيرة التحولات المدنية والحضارية، وتُركت الأبواب مشرعة أمام تراكمات سلبية واحتقانات خطيرة ومتعددة، توجتها حالات العوز والفقر والأمية وانتشار الأسلحة بأنواعها، فتعثر معها تحقيق أي انتقال حقيقي للمجتمع اليمني نحو مقدمات الاستقرار الدائم والتنمية بمفاهيم حديثة. ربما تلك الحالة وضعت اليمن في خانة متأخرة نسبياً عن ركب الدول العربية في تصنيفاتها العامة، بل جعلته بعيداً عن اهتمام العالم إلا في حدود الضرورات وبما تمليه مصلحة الآخرين.
واذا ما تخيل السياسي الفطن الإضافات الكارثية التي أحدثها انقلاب تحالف أنصار الله/صالح إلى تلك الحالة التاريخية من خلال عملية «بروَزة» كل ذلك البؤس في إطار الجحيم الطائفي والصراعات المستوردة من خارج حدود اليمن، إذا ما تخيل.. فإنه بكل تأكيد سيتحرك بشكل مغاير تماماً للعروض الرياضية التي يقدمها المبعوث الأممي، الذي يسعى بمعادلة حسابية ركيكة لأن يقدم للشعب اليمني، بقواه المتحاربة، تميمة أممية لإسكات المسّ التاريخي النشيط، والارتقاء بالجسد إلى حالة الهدوء والعصمة من الانهيار.
نحن نفهم أن التعقيدات المذهلة للواقع اليمني أفرزت وضعاً قد لا يدركه بوضوح راكبو موجات البحث، «بنسق وظيفي»، في أمور عصية على الهضم، خاصة وقد وصلت إلى حالة فيها من التداخل والغموض ما يفوق قدرة الدبلوماسية النمطية لأي مندوب أممي على إدراكها، لكن مع ذلك فإن أحداً لم يتوقع أن تصل حالة الاستعصاء إلى درجة أن تخون أساسيات الفهم صاحبها ولد الشيخ، وترمي بأوراقه خارج الميزان الحقيقي لمخططات السلام. حتى أن خريطته المنثورة على أوراق مسربة قبل مناقشتها، كانت تشبه إلى حد كبير بيان انقلاب جديد يطيح بالطرف الذي يلقبه العالم ومعه مؤسسة الأمم المتحدة بـ»الحكومة الشرعية» دون مقابل حقيقي غير برامج زمنية لتوافقات خطرة حول ملامح المستقبل، أي أنه وضع شرط انسحاب «الحكومة الشرعية» من المشهد قبل بدء العرض.
تلك قمة في السذاجة ونوع من «الهزل السياسي الرصين» أن تُقدَّم مكرمة لطرف أحدث كل هذا الدمار والموت مقابل وعود تعتبر في الفقه السياسي «لا شيء» ودون ضمانات على الاطلاق. لهذا فإن أي قارئ مبتدئ للورقة المسماة «خطة سلام» يعتبره تحرشا لاستظهار ردود فعل ستعقّد المشهد وتحيله إلى ميادين التصعيد المخيف، ويدل على مستوى التعامل الاممي مع أزمات العرب ومع أزمة اليمن بالذات وكأنها دولة خارج الكوكب.
الأمم المتحدة تتلقى ضربات متلاحقة في غير بلد وفي غير أزمة، حتى أن مندوبيها وممثليها أدمنوا الإخفاقات، ولم يعد يهمهم من الأمر سوى الوظيفة وإطالة بقاء مهمتهم قدر الإمكان. وأصبحت أدوارهم تنسيقية بين القوى التي تمسك برأس الهرم القطبي وأتباعها في المنطقة. لكن ولد الشيخ ربما يمثل حالة مرهفة الأحاسيس والعواطف، فهو خلاف للواقع يتدفق تفاؤلاً في خطاباته ومشاهداته، أي من الصنف الذي يقف على أرضية لزجة تمور من تحت قدميه، فتمسك به الأماني بعيداً عن مواجهة الواقع المر، وتعكس مع الأسف قصورا مهنيا في إدراك حقائق الصراعات اليمنية وطبيعتها وجذورها التاريخية، ما يحيل الرجل إلى مقامات الزهد عن المعرفة العميقة التي تمكنه من القيام بدور حقيقي.
لا يبدو أن المبعوث الأممي لليمن قد نسق مع الدول المعنية أو الأطراف المباشرة قبل الشروع في رسم «سكيتشات كاريكاتيرية» لخطة سلامه المفترض، ففاتته أمور أساسية تتعلق بالبنود المبعثرة وجداولها الزمنية التي تبدو كحالة «شطرنجية» ربما تلائم القدرات المكتسبة لمختطفي الدولة ومنهجهم الذي يعتمد على الشطارة والخبث في التعامل مع الأحداث، أي أنها أبعد من أن تكون بنودا مرتبة متماسكة آمنة تقود إلى نهايات منطقية مع ضمانات أكيدة وشفافة، ولم ترق إلى أن تصبح وثيقة أممية حقيقية، وهذا ما يجعل الأمر أكثر غرابة.
وهكذا فإنه من السهل على أي قوة الالتفاف وإجهاض كل شيء بضربة واحدة، فبعد أن يتم الإطاحة بالحكومة الشرعية يدخل اليمن في مساومات حول الإنسحابات من المدن المتعددة وفترات تسليم الأسلحة وتقاسم النفوذ والاختلاف حول الجهات المخولة للإشراف هنا وهناك، وهذا ما يخلق بيئة خصبة لازدهار تحالف أنصار الله/ صالح الذي يجيد توظيف المشاهد المضطربة، والذي بدوره سيقود بلا أدنى شك إلى مرحلة جديدة من الحروب، خاصة أن هناك قوى مسلحة في جغرافيات متعددة لم يشملها أي اجتهاد في مقاربات الحالة اليمنية حتى اللحظة، تلك التي ستضيف ميادين مستعرة في حالة اعتمد العالم خطة مجزأة وملغمة كتلك التي قدمها ولد الشيخ.
لا أحد يمكنه الادعاء بأن أهل اليمن الآن تهمهم مسألة الشرعية ككيان انتقالي، إلى حد يجعلهم يتحملون هذا العناء الشاق والمخيف ويصبرون عليه من أجلها، خاصة بعد كثير من الإخفاقات التي رافقت أداءها منذ اندلاع الحرب، وبعد أن اتضح بأن المناطق المحررة لم يصبها شيء من خيرات الشرعية والتحالف، ما يغري المناطق الواقعة تحت سلطة الامر الواقع، كما يسمونها في صنعاء، لأن ترتفع أصواتها لشق غبار الخوف.. لكن مع ذلك فإن أي خطة سلام لا تقوم على استعادة الدولة وتقود إلى عملية سياسية آمنة ومقنعة لكل الأطراف في الساحة اليمنية، فإنها ستعتبر بوابة لمرحلة أكثر خطورة وتعقيد، وهذا ما يشكل فارقا عند المواطن العادي قبل السياسي.
إن الحالة اليمنية بشكل عام تتطلب خطة سلام شاملة وكاملة تأخذ بعين الاعتبار كثيرا من القضايا السياسية وتقارب المعضلات والأزمات وفق رؤى موضوعية تضع البلد على مسارات آمنة نحو الاستقرار الدائم وتضع نهايات حقيقية لتاريخ مثقل بحمولات متعددة، لا يجوز معه اجتزاء حالات محددة يتم وضعها في سياقات تنسجم مع طموحات دولية وأقليمية، لأن اليمن بلد له شأن مختلف ويعاني من أوجاع مستعصية يتطلب اهتمام العالم والإقليم لوضع المعالجات الضرورية مهما بلغت قسوتها
القدس العربي