خير الله خير الله
كان صعبا التكهن بتطور الأحداث اليمنية بهذه السرعة. لكن العارفين بالبلد وخباياه كانوا يتوقعون بلوغ الأوضاع مرحلة يصل فيها الحوثيون، أي “أنصار الله” إلى تعز وتطويقهم لكبرى المدن اليمنية وأكثرها كثافة بشرية، وسعيهم إلى السيطرة عليها.
ترمز تعز الواقعة في الوسط إلى الوجود الشافعي في اليمن. الأكثرية في البلد شافعية. كما ترمز تعز إلى أنها بوابة الجنوب، فضلا عن أنها تضم العائلات التي منها كبار التجار وهي مركز معظم الصناعات في اليمن.
فوق ذلك كله، كانت تعز، في كل' وقت، مدينة مسالمة تؤمن بدولة القانون. ولكن ما العمل عندما ينتهي الانقلاب الذي نفذه الإخوان المسلمون على علي عبدالله صالح والذي شمل محاولة اغتياله، إلى تحول “أنصار الله” الآتين من شمال الشمال، إلى القوة العسكرية الوحيدة المتماسكة في البلد؟
انتهى العام 2014 بقيام وضع جديد في اليمن. أعلن عبدالملك بدر الدين الحوثي زعيم “أنصار الله” صراحة عن قيام نظام مختلف في البلد ينهي ذلك الذي قام في سبتمبر من العام 1962 نتيجة التخلص من نظام الإمامة.
اعتبر أن “ثورة الواحد والعشرين من سبتمبر”، يوم سيطرة الحوثيين على صنعاء، قضت على “ثورة السادس والعشرين من سبتمبر” التي قامت على إثرها الجمهورية.
هناك وضوح وصراحة لدى الحوثيين، فيما لا يمتلك الآخرون أي رؤية واضحة لكيفية التعاطي مع هذه الظاهرة. لا حكومة يمنية بعد اليوم من دون موافقة “أنصار الله” الذين تربطهم علاقة عضوية بإيران. هربت الحكومة إلى عدن كي تتمكن من الاجتماع في جو طبيعي إلى حد ما.
هناك منطقة يمنية باتت تحت السيطرة الكاملة للحوثيين الساعين إلى التمدد في كل الاتجاهات. في أسوأ الأحوال، يستطيع الحوثيون الاكتفاء بكيان خاص بهم يجعلون منه دولة لا مؤسسات لها. تمتلك هذه الدولة المسخ منفذا بحريا وحدودا طويلة مع المملكة العربية السعودية. لديهم مثل هذا المشروع، علما أن ليس ما لديهم ما يبني دولة من أي نوع كان.
في نهاية المطاف، ما الذي في استطاعة “أنصار الله” فعله للناس العاديين؟ هل إيران، المفلسة، مستعدة لضخ مليارات الدولارات سنويا لدعم الاقتصاد اليمني، كي يكتشف اليمنيون، الذين يعيشون بأكثريتهم الساحقة تحت خط الفقر، أن شيئا ما تغير منذ ذهاب الرئيس علي عبدالله صالح إلى منزله؟ هل في استطاعة إيران تحمل عبء اليمن بمجرد أنها تمتلك ميليشيا مسلحة متماسكة، تطلق شعارات مؤيدة لها من نوع “الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود؟”
دعم اليمن من دون خطة مدروسة تتولى جهات قادرة تنفيذها على الأرض، أشبه بمن يحاول تعبئة الماء في سلة من قش. سبق لكثيرين أن حاولوا دعم اليمن في مرحلة كانت فيها، في عهد علي عبدالله صالح، شبه هياكل لمؤسسات الدولة. ما العمل الآن في ظل انهيار الدولة؟ لو كانت إيران تستطيع البناء، لكانت استخدمت مواردها النفطية في خدمة شعبها الذي يعيش نصفه، إن لم يكن أكثر من نصفه، تحت خط الفقر.
تستطيع إيران إطلاق صيحات النصر قدر ما تشاء. لا شك أنها باتت موجودة في منطقة استراتيجية في الجانب الآخر من الجزيرة العربية، ولكن من الباكر الحسم في الموضوع اليمني.
من الباكر جدا الحسم، على الرغم من أنه يجب عدم الاستخفاف بالحوثيين وبما يمثلونه في اليمن، خصوصا في المحافظات الشمالية حيث الرابطة الهاشمية بين العائلات الكبيرة، وهي رابطة لا يتفهم أهميتها كثيرون، نظرا إلى أنهم لا يعرفون شيئا عنها. إطلاق صيحات النصر شيء، والواقع شيء آخر. اليمن ليس بلدا سهلا. يمكن سؤال المصريين عن ذلك، والعودة قليلا إلى المغامرة التي خاضها جمال عبدالناصر الذي أرسل أفضل قواته إلى هذا البلد في ستينات القرن الماضي. كلفت المغامرة اليمنية عبدالناصر ومصر الكثير، بل الكثير جدا، وكانت تنم عن جهل شبه تام بالبلد وتعقيداته وبطبيعة اليمنيين وتقلباتهم.
كانت إيران تعتقد أن العراق صار في الجيب، وأن البحرين ستسقط بين لحظة وأخرى، وأن سوريا صارت تحت السيطرة، كذلك لبنان. لم تكن حساباتها دقيقة لا في العراق ولا في البحرين ولا في سوريا ولا في لبنان.
حيث توجد إيران، توجد مقاومة لها ولفكرها المذهبي، الذي يقوم على استغلال المذهب في خدمة مشروع سياسي ذي طابع توسعي، علما أن الانتماء الفارسي، الذي يحتقر العرب، هو ما يهم الإيرانيين ويحركهم أولا وأخيرا.
لا مفر من الاعتراف في ما يخص اليمن – حيث يوجد اعتراض كبير على الإخوان المسلمين وما يمثلونه، حتى في الأوساط الشافعية – أن إيران قادرة على فرض واقع جديد. هذا أمر مفروغ منه. لكن الأكيد أنه لن يكون في إمكانها التوسع في اتجاه الوسط، والذهاب بعيدا في ذلك. الدليل على ذلك أنه تبين أنه ليس مرحبا بها في تعز، عاصمة الوسط الشافعي، التي تظل أكبر المدن اليمنية. هل سيتمكن الحوثيون من السيطرة على تعز التي ترفض وجودهم، أم سيجدون وسيلة لإخضاعها، على غرار إخضاعهم صنعاء ذات الطبيعة المختلفة؟
جديد اليمن مع انتهاء 2014، عمق المقاومة الشافعية للحوثيين في مناطق الوسط. فإحدى الشخصيات المحسوبة عليهم في تعز، اضطرت أخيرا إلى وضع مسافة بينها وبين “أنصار الله”.
من الواضح أن التعليمات الأخيرة التي صدرت عن عبدالملك الحوثي والموجهة إلى “اللجان الشعبية” و”اللجان الثورية”، أي إلى ميليشيا “أنصار الله” المنتشرة في صنعاء تعني، أول ما تعني، الارتداد في اتجاه العاصمة والمناطق المحيطة بها بغية إحكام السيطرة على شمال الشمال.
هل اكتشفت إيران حدود قدرتها على تدجين اليمن وتحويله جرما يدور في فلكها؟ هل تكتفي بأن تكون لها قاعدة في جزء من البلد، وترك الوسط والجنوب يتحولان إلى دويلات؟ اليمن الذي عرفناه انتهى. الأكيد أنسيطرة إيران على كل اليمن لم تعد واردة… الأكيد أيضا أن معركة تعز ستكون مهمة، نظرا إلى أن تعز مدخل للجنوب ولمضيق باب المندب الإستراتيجي، بكل المعايير، في الوقت ذاته.