د. فارس البيل
لم تعد الثقافة مجرد وعي ببعض الحقائق؛ إذ باتت سلطة كاملة، ليست مرئية لكنها ترفع المجتمع أو هي من تعوق تقدمه بشكل جلي.
مرَّ مفهوم الثقافة بالكثير من التطورات والتفسيرات والانتقالات الدلالية، إلى أن باتت الثقافة تشمل العقائد والقانون والأعراف والفن والأخلاق والقدرات وغيرها، بحسب تعبير "إدوارد تايلور" في القرن التاسع عشر.
وربما كان هذا هو المعنى الشامل للثقافة بكل حمولاتها الحضارية، بعد أن كانت الثقافة لدى الألمان تعني العلوم الإنسانية، ولا تعني أكثر من العلوم التطبيقية لدى الإنجليز على سبيل المثال، وبفعل الترجمة انتقلت هذه الرؤى إلى العرب وشاع مفهوم الثقافة العام بعد الحديث عن صراع الحضارات أو الثقافات، وباتت الثقافة هي الصورة الكاملة لأي مجتمع بكل ما ينتجه ويحويه بداخله من حراك إنساني وعلمي وقيمي متعدد.
وتبعًا للتطور في المفهوم والتجربة؛ انتقلت كثير من المجتمعات بفعل تطوير ثقافتها والعناية الشديدة بآفاقها وإدراك العامل الثقافي بوصفه أهم رافع للتنمية والتقدم؛ انتقلت كل تلك المجتمعات إلى مرحلة التقدم والرخاء والنضوج المادي والثقافي والمجتمعي.
في حين ظل العرب بعيدًا عن محاولة قراءة موروثهم الثقافي، أو إعادة تدوير الثقافة بما يلائم العصر، أو حتى الاقتراب من الثقافة باعتبارها المنجز الكامل والمدخل لأي عملية نهوض أو تنمية، واقتصرت الحياة العربية على استقدام بعض النظريات الأجنبية دونما عناية بالواقع والحاجة، أو تأهيل لهذه النظريات في إطار الملائمة والانتماء، كما اكتفت السلطات المؤثرة في المجتمعات العربية، من سلطة السياسة مرورًا بسلطة المؤسسات والفكر الديني إلى مؤسسة الأعراف والقيم؛ اكتفت جميعها برعاية الاختلاف والتمايز والنفي والاستحواذ، والدخول في صراعات ومعارك جانبية بينية في الفكر أو السياسة والكيانات، واكتفت كل تلك المنظومة المحيطة بالواقع العربي فكرًا ومادة باستدعاء قيم التخلف واستنهاض كل ما من شأنه البقاء في طور الجهل، مع الاهتمام بتوجيه كل اللوم للمؤامرات الخارجية في إسقاط المشروع العربي بكل قيمه!.
وما تزال الثقافة العربية اليوم بمعناها الواسع، أو بحدودها العلمية المشاعة رهينة كل هذا الإرث المتصارع والاستقطاب الحاد الذي يفتقد لأدنى رؤية تقدمية أو تنموية مستقبلية، وإذا ما رصدنا بعض المحاولات للخروج بالثقافة إلى دائرة الحراك والتفاعل المجتمعي، فهناك من المحاولات الجادة الكثير وقد أسهمت في إنعاش المشهد الثقافي العربي منذ بدء عصر النهضة العربية، ولا يمكن إغفال كل تلك الأسماء والفعاليات التي أنعشت الثقافة العربية قدر الإمكان، لكن تبقى الثقافة العربية مستلبة من المنظومة السلطوية المتحكمة في كتلة المجتمع العربي، ونعني بها كما سبق المؤسسات الثلاث السياسية والدينية والتقليدية العرفية.
على أن كل ذلك التفاعل المقاوم الذي حاول أن ينتزع الثقافة العربية ولو بمفهومها القريب من أغوار التخلف إلى منابع الضوء، وبرغم ما حقق؛ لم يكتب له أن يصل بالثقافة عمومًا إلى أن تكون السلطة الفاعلة في المجتمع، وتكون كل تلك السلطات الاخرى جزئية منها، تنطلق من رؤاها، وتتفاعل في مساحتها الخلَاقة.
وما لم تصبح الثقافة ـ التي هي الأم ـ المجال الأول للانطلاق العربي، ومحط الاهتمام الأكبر فإن الثقافة بكل تفاصيلها الجمالية والفنية والقيمية، وكل أنشطتها ومداراتها واشكالاتها ستبقى في خانة الهامش، وفي أطوار التخفي بعيدة عن أي تأثر أو تأثير، ومعها سيبقى الإنسان العربي في آخر الفعل الحضاري، وفي أدنى مجالات المعرفة والحياة المتقدمة.
/نقلا عن هافينغ تون بوست بالعربية/