أحمد حسن الشرقاوي
الدجاجة رمز للخوف والخنوع والانكسار، ومنها اشتق تعبير «التدجين». ومنذ انقلاب يوليو 1952 وحتى الآن، تلجأ الأنظمة العسكرية المتعاقبة على حكم مصر لاعتماد «ذراع ثقافية» يعد الإعلام إحدى أذرعها الفرعية. بل إن الأمر يعود إلى ما قبل ذلك التاريخ حيث كان للنظام الملكي ذراع طوال الوقت في المجال الثقافي والفكري والفني، وحرص الاحتلال البريطاني لمصر على وجود «طابور خامس» من المثقفين والساسة المصريين الذين يساندونه لدرجة أن أحدهم وكان وزيرا للمالية واسمه «أمين عثمان» وصف عام 1945 العلاقة بين مصر وبريطانيا العظمى (آنذاك) بأنها «زواج كاثوليكي»، مما أدى إلى قيام مجموعة من الشبان المصريين بقتله، وكان من بينهم الرئيس المصري الراحل أنور السادات.
بعد انقلاب عبدالفتاح السيسي في 3 يوليو 2013، قام أول وزير خارجية في حكومة الانقلاب وهو نبيل فهمي بوصف مشابه لوصف أمين عثمان، ولكن هذه المرة للعلاقة بين مصر وأميركا. لكن نبيل فهمي الطالب الفاشل الذي هرب من التجنيد خلال حرب أكتوبر 1973، وعمل بالواسطة كدبلوماسي في وزارة الخارجية -لأن والده إسماعيل فهمي كان أيضا وزيرا للخارجية- لم يكن مصيره مثل سلفه أمين عثمان لكنه خرج من الوزارة بعد أن فشل في خدمة «العسكر» ونظامهم.. لا خدمة مصر وشعبها ومصالحها!!
الفكرة هنا هي أن رغبة الغرب في أن تظل مصر تسير في فلك التبعية له موجودة وحاضرة في المشهد السياسي المصري منذ فترة طويلة، وتتعدد الوجوه التي تنادي بها لكن الجوهر واضح.
البعض يركز على الذراع الإعلامية التي تحدث عنها زعيم الانقلاب عبدالفتاح السيسي، وينسي أن هذه الذراع التي نشأت نتيجة للتطور التكنولوجي في وسائل الإعلام ليست سوى أحد روافد الذراع الثقافية التي تمتد إلى الفنون سواء السينما والمسرح والأدب والرواية وغيرها، ثم تتوسع لتصبح نمطا فكريا يتم نشره بين الناس.
«التغريب» هو المصطلح الذي يطلق على الظاهرة التي نتحدث عنها، ومصر عاشت خلال القرنين الماضيين بين مطرقة «التغريب» وسندان «التخريب» الفكري والثقافي لعقول أبنائها وتسطيح وابتذال القيم التي عاشت عليها والعدوان على موروثها الثقافي وهويتها الدينية ومحاولة طمسها بدعاوى الوسطية والإصلاح الديني وغيرها من الدعوات التي يبدو في ظاهرها الرحمة وفي باطنها استمرار نمط التغريب وبالتالي التبعية للغرب.
أنظمة الحكم العسكرية منذ العام 1952 ركزت على دور الثقافة والإعلام في طمس الهوية الحضارية وكان للفنانين والمطربين مثل أم كلثوم وعبدالحليم حافظ دور كبير في التعبئة والحشد للجماهير لصالح النظام، واستمر هذا الأمر مع السادات ومبارك، ولم يكن النظام الانقلابي بزعامة عبدالفتاح السيسي مختلفا عما سبقه من الأنظمة العسكرية، لكنه كان الوحيد الذي اعترف بأنه عمل ويعمل على تكوين وتقوية هذه الذراع الإعلامية المخصصة للقيام بعملية «غسيل مخ» يومية للمصريين لإخفاء عيوب النظام وإخفاقاته والتركيز على محاسنه وإنجازاته حتى وإن كانت وهمية!!
الجانب الخفي في عملية خلق وتكوين الذراع الإعلامية هو منع الكفاءات الوطنية من الظهور وحجبها عن الناس، حتى لا يصبح كلامهم في مواجهة كلام أعضاء هذه الذراع الإعلامية العسكرية، وحتى لا يرى ولا يسمع الشعب المصري ولا يقرأ سوى ما تقوله وتكتبه هذه الذراع المتواطئة مع الحكم العسكري.
النظام البوليسي المخابراتي لجأ لحيل عديدة لاختيار وانتقاء أعضاء هذه الذراع الإعلامية العسكرية، وتعددت وسائل سيطرته عليهم، فالبعض من المثقفين الفاهمين كانوا يقومون بالسيطرة عليهم بوسائل مخابراتية من بينها توريطهم -رجالا ونساء- في فضائح فساد مالية وأخلاقية وتهديدهم بها للاستمرار في العمل معهم، وهذا ما يفسر أن بعضهم كان معارضا شرسا للأنظمة السابقة وتحول إلى حمل وديع للنظام الانقلابي مثل عبدالحليم قنديل.
وبعضهم أو معظمهم يتم إغراؤهم بالمال للاستمرار في العمل في منظومة الذراع الإعلامية للعسكر، وكلهم يعملون تحت التهديد والخوف من البطش من جانب النظام الديكتاتوري العسكري.
«العصا والجزرة» أسلوب العسكر الدائم في التعامل مع ذراعه الإعلامية. ولكن الأشخاص يختلفون، فمنهم المثقف الفاهم ولكنه «غير مدجن» وله آراء مستقلة فلجأ إلى تدجينه وإدخاله حظيرة قطيع الإعلاميين بوسائل السيطرة السابقة، ومنهم أيضا «المدجن» الذي تعد أقصى أمانيه هو أن يقبع داخل الحظيرة لكنه في الواقع جاهل وأحمق ومغرور (أحمد موسى نموذجا مثاليا لهذه النوعية) يلجأ النظام البوليسي المخابراتي لتلميعه و «تثقيفه» بمنحه منبرا إعلاميا كبيرا وتزويده بالمعلومات والتسريبات والآراء التي يخرج ليتقيأها كل ليلة في وجوه المشاهدين أو في آذان المستمعين، وبالتالي تم استحداث ما يسميه كاتب هذه السطور أسلوب «تثقيف المدجنين.. وتدجين المثقفين» المصريين في دولة البوليس والمخابرات.
والواقع أنه رغم الضربات القوية التي تلقاها الإعلام المناهض للعسكر عقب الانقلاب العسكري مباشرة وإغلاق العديد من الصحف والقنوات الفضائية التابعة لخصومه السياسيين، فإن الإعلام الوطني الذي نشأ في الخارج بعد عامين من مذبحة رابعة والنهضة التي حلت ذكراها يوم أمس الجمعة، حقق نجاحات ملموسة خلال تلك الفترة الوجيزة رغم مطاردة سلطات الانقلاب له خارج مصر.
والخلاصة أننا نرى أن المستقبل للإعلام الوطني المستقل الرافض للتبعية والمناهض لوكلائها في بلادنا، ولا مستقبل لإعلام يعتمد مبدأ «تثقيف المدجنين.. وتدجين المثقفين». ولا عزاء لأحمد موسى وتوفيق عكاشة وأمثالهم!!