نبيل البكيري
سأغامر مبحرًا هذه المرة عكس سفينة ناصر الدين الأسد وكتابه الممتع “اليمن ذلك المعلوم”، لأكتب لكم عن ذلك اليمن المجهول، الذي تصدمني أسئلة البعض، حوله، تلك التي لا تفتأ تطاردني، أينما رحلت، عن هموم يمن جريح يغمره الحزن، عن أخبار بلاد العرب غير “السعيدة”، بعد أن كانت سعيدة ردحًا من الزمن.
أسئلة أتفاجأ بها أحيانًا كيمني عربي، من إخوة عرب ربما أنا اليمني أعرف عنهم أكثر ما يعرفون هم عن أنفسهم، وهذي هي طبيعة اليمني على أية حال؛ فضول يدفعه لمعرفة كل شيء، رغم النكبات التي عاشها ويعيشها، يبقى اليمني من أحرص الناس على التعلم بأي طريقة كانت، ومع هذا تجد الإعلام العربي قبل الأجنبي يصفنا بأبشع الأوصاف كبلد قبلي، مسلح، أمّيّ، غير ديمقراطي، وملجأ آمن أيضًا للأفكار الإرهابية.
اليمن بلاد عمقها الحضاري أكثر من خمسة آلاف سنة، تعاقبت عليه دويلات كدورات حضارية مبكرة، فرضتها طبيعة اليمن القاسية على اليمنيين لمواجهة شح الموارد المائية ووعورتها الجبلية، التي ضيقت الخناق عليهم؛ مما دفعهم نحو تشغيل عقولهم لمواجهة هذه الطبيعة القاسية لليمن والساحرة في آن.
فشحّ المياه، واجهه اليمنيون ببناء السدود، التي كانت تحتجز مياه الأمطار، وتخزنه على امتداد العام ليستخدم في الزراعة والشرب، فيما ووجه ضيق الأرض ووعورتها ببناء المدرجات بشكل هندسي بديع لاستغلال هذه الجبال في إنتاج محاصيل الزراعة المختلفة.
ومثلما لم يقف اليمني القديم مكتوف الأيدي أمام قسوة الأرض، كذلك فعل أمام كل ضرورات الحياة واجتماعها البشري، الذي خبره اليمنيون مبكرًا بفعل نزوعهم المبكر للتحضر الذي يفرضه التطور التاريخي للمجتمعات، فهذا اليمني الذي ترونه اليوم أمامك، مصاب بعوادي الدهر، كان أول إنسان يتحدث عن قانون الجنسية الذي عرفته البشرية منذ مشارف القرن الماضي، ومثلها فطن اليمني القديم إلى نظام السلطات المحلية مبكرًا كما تدلنا نقوش النصوص السبئية.
ففي أحد النقوش المعينية، كان هناك نقش يتحدث عن أن لابن المرأة المعينية من غير المعيني ما لأمه من الحقوق والواجبات، أنا لا أريد هنا أن أعود إلى الماضي السحيق متغنيًا وهاربًا من بؤس الحاضر ولكنها الحقيقة التي تجرني أن أقولها: إننا أمة ضاربة في عمق التاريخ، ولسنا طارئين جددًا على هذه الرقعة الجغرافية.
ومع هذا يبقى الماضي ماضيًا، ونحن أبناء اليوم، وأبناء هذه اللحظة كما هو طبيعة الإنسان أنه ابن لحظته، ومنها يستمد وجوده وهويته ومكانته بين الأمم ويبقى ماضيه مع هذا شاهدًا له أو عليه.
وقصة اليمن مع ماضيها العريق تكاد تكون هي نفس قصة اليونان اليوم مع ماضيه، حيث عراقة تاريخية وحاضر بائس وكئيب، لا أدري كيف يجتمعان، عراقة التاريخ مع بؤس الحاضر؛ إلا في دلالة واحدة على أن الإنسان هو ابن لحظته التي يجب أن لا ينشغل بغيرها، وإن انشغل بماضيه قد يخسر حاضره، ولعل هذا هو الشيء الوحيد الذي قد يفسر لنا بؤس حاضر اليمنيين واليونانيين على حد سواء.
فمما لا يسع جهله عن اليمن، أن شمالها رزح قرونًا تحت سلطة الكهنوتية الزيدية، التي قدم بها مؤسسها يحيي بن الحسين الرسي، عام 284 هجرية إلى اليمن هاربًا من طبرستان، وأن الزيدية كنظرية سياسية حاكمة، تعد بمثابة النواة الأولى لمسمى الإسلام السياسي.
الزيدية السياسية هذه، هي الحاضرة اليوم أمامنا بمسمى الحوثية، وهي التي عادت بعد أزيد من خمسين عامًا من الثورة عليها من قبل اليمنيين منذ 26 سبتمبر 1962م، هذه الثورة الأعظم في تاريخ اليمنيين، كثورة فكرية في الأساس عسكرية في التفاصيل.
فالزيدية، التي ترتكز على نظرية سلالية شوفينية ضيقة في الحكم، باعتباره حقًا إلهيًا في سلالة ما، يطلق عليهم اليمنيون: “الهاشميين”، صحيح أنها نتاج الفراغ السياسي الكبير في الاجتماع السياسي الإسلامي، لكنها تعد خروجًا حتى عن أبسط مبادئ الإسلام وقيمه الأولية المتمثلة بالعدل والحرية والمساواة.
ومما لا يسع جهله عن اليمنيين أيضًا، أن اليمنيين من أكثر الشعوب برجماتية على الإطلاق؛ فاليمني مقابل مصالحه يمكنه أن يغير معتقده حتى لا يتعارض مع مصالحه، كما تكشفه لنا سردية اليمني التاريخية فقد اعتنق اليمنيون كل الديانات السماوية المسيحية واليهودية أيضًا؛ مما يفسر لنا أن اليمني محكوم بقانون المصلحة أكثر من أي قانون آخر وهذه ميزة في العلاقات الدولية والاجتماعية للشعوب.
بمعنى آخر، برجماتية اليمني، وعقليته النفعية، قد تكون هي الأكثر نفعًا حتى في قانون الدعوة الإسلامية، لا التشدد العقائدي، الذي ينفر الناس منك، أكثر ما يقربهم إليك، بالنظر إلى أن اليمنيين الحضارم وغيرهم، كانوا كتجار مَن نشر الإسلام في شرقي إفريقيا وآسيا على حد سواء بفضل هذه البرجماتية التي تعلي من المنفعة والمصالح المشتركة بين الأمم!
قبليًا أيضًا، اليمن بلد قبلي، والقبيلة أهم مكوناته الاجتماعية، والقبيلة مجتمع مدني مصغر، تحكمه قوانين القبيلة وأعرافها، القبيلة التي يتمتع أفرادها بقابلية فريدة للتمدن والتعلم أكثر من غيرهم، القبيلة لم تكن عائقًا يومًا أمام قيام الدولة في اليمن؛ وإنما شيطنة القبيلة وإبقاؤها بعيدًا عن التمدن والتعليم هي العائق الذي يجعل من القبيلة عائقًا أمام الدولة.
السلاح، هو الآخر، جزء أصيل من شخصية اليمني وزيه التقليدي، لكنه يبقى إحدى أهم الأدوات التي تخلق توازنًا اجتماعيًا يحفظ توازن المجتمع أمام تغول أي سلطة قبلية أو عسكرية داخلية أو خارجية، السلاح لا يمثل لليمني شيئًا كثيرًا بقدر ما يخلق وضعًا أقرب منه لمعادلة أمنية، أثبتتها ثورة 11 فبراير السلمية أن اليمني أكثر عقلانية وحكمة في التعاطي معه.
صراع السنة والشيعة، لا وجود لصراع حاليًا في اليمن يتأسس أو يرتكز على هاتين المفردتين، رغم كل الدفع نحوهما، صراع اليمن اليوم بين مشروعي الدولة والفوضى، مشروع الدولة الذي خرجت من أجله جموع ثورة 11 فبراير، ومشروع الفوضى الذي تقوده ميليشيات صالح والحوثي، وهو مشروع قديم نسبيًا في اليمن وجد حوامله الإقليمية فخرج للوجود على أكتاف إيران ومشروعها في المنطقة.
هذه مجرد خواطر سريعة وعابرة على أمل التفصيل فيها مستقبلًا، شاكرًا لطاقم صحيفة التقرير شرف دعوتهم للكتابة في تقريرهم هذا الذي نتمنى أن يكون جسر تواصل وتثاقف دائم بين أجيال هذه اللحظة العربية العصيبة.
* نقلا عن التقرير