اليمن تعيش التشظي كلَّه في تاريخها المعاصر نتيجةً للإتجار الرخيص بدماء رموزها التاريخيين من أطراف داخلية تسعى لإعادة اليمن إلى عصر الشعوذة والأحاجي الدينية الساندة للطغيان العرقي السلالي البائد في اليمن بإسناد من علوج الفرس الحاقدين، وكذلك الأطراف الخارجية الساعية للانتقام عبر جحيم قناة الجزيرة الذي يمثل نكبة إعلامية جرفت العقل العربي وجعلته بين الحقية والتيه، بعد أن كانت منبراً إعلامياً حراً تشرئب لسماعه الأعناق، كل ذلك للنكاية بدولٍ أخرى فقط اختلفت معها خارج الشأن اليمني بعد أن غرقت في مأساته دماءً إنساناً وأرض، بما فيه دماء حلم مشروع بناء اليمن الحديث المتمثل باغتيال الشهيد الحمدي لم يسلم من استغلال قوى الإمامة وعكفتها.
والتي لم ترق يوماً لتوجهه منهجاً وحكم حيث جعلت من قصته اليوم نافذة للتسلل منها إلى قلوب اليمنيين وحتى الراحل علي صالح لو لم يتم قتله على أيديهم لصَنعت منه منبراً وطنياً تسوق على إثره محبيه والموالين له إلى جحيم معاركها في كل واد.
فاليمن ليست اليمن التي يقرأها المارون في الموسوعات التاريخية التي لا تُفتتح تاريخ الأمم إلا به فحسب، بل هي حاضرة التفاسير القرآنية التي لا تمر على السِوَرْ التي نُعتت بها اليمن وأحداثها إلا تلتها آياتٌ ومعاني، وكما أنها ليست اليمن التي يقرأها العابرون قصصاً وبطولات عبر تاريخ الفتوحات الإسلامية وتصدُر اليمنيون لأحداثها حيث كان جل قادتها وجيوشها أباء وأجداداً لهؤلاء المهرقة دماؤهم دون ثمن بل إنها أبعد من ذلك نظريةً قولاً وفعل على كل أولئك.
قد يقول مشوهي العقل ومثقوبي الذاكرة أنتم تستظلون بظل التاريخ دون الفعل اللازم في نقد الذات والترقي بها، والحقية الثابتة هي أن الجينات الحضارية والثقافية والعلمية والعملية تجري في الأجيال كما تجري الجينات في بني البشر وتلك أقوى مميزات اليمني أينما حل وارتحل، تلك هي الأمة اليمنية التي ما فتئت تنجب القادة والمبدعين أعلام العلم والتجارة والعمل عبر التاريخ في مشارق الأرض ومغاربها، بداية من قحطان أرومة العرب أحفاد اليمنيين وأبوه نبي الله هود عليه السلام حتى آخر قائد سياسي "الحمدي" الذي أنعش الحياة اليمنية في سبعينات القرن الماضي.
ولولا السحق التاريخي الذي تسببت به قطعان الغزاة المتوردين لليمن في قرون مضت منذ تسلل الأسر الرسية السلالية لاهوت القرن الواحد والعشرين إلى اليمن لكان لهم مع العلم والابداع والإعمار والحياة الكريمة قصةٌ أخرى.
لم يفلح المتوردون في كل ما أرادوا غير أن لاهوتهم وثقافتهم عَلِقت في عقول البعض وسحبتهم معها، أورثتهم الخراب الدائم والفقر المزمن والمرض الذي لا زال اليمني يجني أثاره شعباً وأرض حتى هذه اللحظة، وما انقلاب تلك السلالات والشخوص على أهداف ثورة 26 من سبتمبر واغتيال الحمدي والالتفاف على مخرجات الحوار الوطني ورفضها لها رفضاً قاطعاً وتسليم مدفعية جزيلان والسلال وعبد الرقيب عبد الوهاب لبقايا الإمامة العائدة إلا مثالاً ناجزاً شاهداً على ذلك.
لم يبكِ الناس شخص الحمدي بل انتحبوا على مشروع كان يراودهم في الأفق بناء الدولة والجمهورية العادلة والحلم الوليد الذي فقدوه بفقدان الرجل، كانت فترته قصيره غير أنها كانت علامة فارقة على قدرات اليمنيين في التحول والتطور إذا ما وجِدَ القائد الحامل لهمومهم.
الجريمة الكبرى أنه لا يتولَ أمر اليمنيين إلا شرارهم اغتيل فيصل عبداللطيف محرك ثورة 14 أكتوبر في زنزانته عقب خروج الاستعمار البريطاني وكذلك الرئيس قحطان الشعبي وسالم ربيع علي الصديق الحميم للحمدي الذي أُطلق عليه صديق الفقراء " الكادحين" بعد ثورة الرابع عشر من أكتوبر، كما تم إقصاء كل ثوار ثورة 26 من سبتمبر وتشريد الرافضين للثالوث الكهنوتي القبيلة والسلالة والسدنة، قتلوا كل من آمن بحقيقة مبادئ الثورات اليمنية ورفض الذل والانحناء.
ما أورده برنامج الغداء الأخير لم يكن إلى أحد الصفحات التي لم تكتمل حلقاتها فكان تشويهاً للشهيد الحمدي أكثر منه انصافاً لقضيته لأنه أراد توصيل رسالة النكاية، وأغفل الحقائق التي كان باستطاعة قناة الجزيرة وجحيم امكانياتها أن تتفادى الفجوات التي ظهرت في فلم الغداء الأخير وأن تخرج للناس الحقائق التي عجزوا عن التوصل اليها.
منها حقيقة صراع الشهيد الحمدي مع أقطاب الإمامة عقب توليه السلطة وإيقاف عجلة التعيينات السلالية التي تبناها كاهنهم يحي المتوكل وزير الداخلية في عهد الرئيس الارياني فغرس أزلامهم في كل مفصل من مفاصل الدولة حتى آثار قلق الكثير من قادة الثورة غير أن الحمدي وقف بصلابة في وجه كل تلك الاختراقات فكان لقصة اغتياله في ذلك نصيب، فبلغت ثقة بعض الشخصيات القبلية لدرجة ترشيحه ليكون رئيساً بديلاً لعبدالرحمن الارياني لولا وقوف البعض في طريق ذلك التوجه ورفضة كونه كان عودة للإمامة بثوبٍ آخر.
لم تتعب قناة الجزيرة ومبدعها المليكي في تقصي حقائق ما جرى بعد مقتلة عبر من كان لهم علاقة مباشرة بمنفذي جريمة الاغتيال، وهم لا زالوا أحياء يرزقون في الداخل والخارج وعلى رأسهم عبدالله عبد العالم في دمشق ومجاهد الكُهالي في صنعاء والتمردات التي حصلت على إثرها والتحالفات والصراعات العسكرية التي حاولت الثأر له ومن هم سبب الفشل الذي أُلحق بهم وردود أفعال مشروعه التنموي والأمني الذي كان سببا رئيساً لمقتله إلى جانب توجهه لتحقيق الوحدة وعلاقته مع بعض الضباط الكبار ومواقفهم من عملية الاغتيال أسباب تلك العلاقات نتائجها علاقته مع سالم ربيع علي من قبل ومن بعد، موقفه كذلك بعد الحادث وما الذي اتخذه في صنعاء وعدن بعد دفن الشهيد.
وأخيراً فالعمل الذي يشوبه النقصان في بعض القضايا يكون سبباً في استحكام التعاسة الدائمة لعشاق معرفة الحقيقة.