يواجه الادب السياسي المعاصر سؤالا جوهريا يتعلق بماهية المفاهيم السائدة، وهل تعبر هذه المفاهيم عن الحقيقة أم انه يتم تأولها وتفسيرها وفق مقتضيات رغائبية سياسية لا علاقة لها بجوهر المفهوم .
نحن هنا بأزاء سلسلة من المصطلحات العامة التي يتداولها الناس على مختلف المستويات، وتتقمص في الغالب الأعم معاني لا علاقة لها بجوهر تلك المصطلحات، ولأن الأمر بحاجة الى بيان ناصع نتذكر ما كان من أمر المصطلح الذي ساد في ثمانينيات القرن المنصرم وهو القول بالغزو الثقافي ، وقد تم تفسيره آنئذ بوصفه اعتداء ثقافة على اخرى ومحوها من الوجود ، وقد انطوى هذا التفسير على قدر كبير من الاستيهام والتجنح ، ذلك أن مفاعيل التأثر والتأثير بين الثقافات الانسانية المختلفة سياق من السياقات الجبرية في مسار التاريخ، لكن ذلك لا يعني بحال من الأحوال اختفاء ثقافة بكاملها لتحل محلها ثقافة اخرى، ومن هنا اوضحت الدراسات الانتربولوجية أن الثقافات الإنسانية بتنوعها قد تخبو وتنكمش، لكنها لاتموت بالمعنى الاطلاقي للكلمة ، بل تتفاعل مع الوافد الثقافي على قاعدة التأثر والتأثير المتبادل، وتثبت علوم اللسان التاريخية والموسيقى والعمارة وأنماط الحياة أن الأصل الأصيل في الثقافة الإنسانية يكمن في كونها ثقافة (خلاسية) ، وان العالم المسكون بشعوب وامم متنوعة نابع من الهجرات التاريخية التي حملت في تضاعيف عبقريتها تنوعا كبيرا في الأنساق، حتى ان القول بالغزو الثقافي ينطوي على مخاتلة مكشوفة ، ويعبر من منازع شوفينية استنسابية لا تقوى امام الحقائق .
تاليا وبعد عقود من ذلك المصطلح برز مصطلح العولمة، وساد مفهوم بذاته يتعلق بالنموذج الأمريكي الذي يقدم نفسه بوصفه مجتمع المستقبل الحتمي، وقد تفاوت المجتهدون في تفسير هذا البعد الأحادي للعولمة، ولم يفرقوا بين العولمة بوصفها ظاهرة انسانية موضوعية، وبين العولمة بوصفها مركزية إرادوية غالبة من ناحية اخرى ، ولم يضعوا بعين الاعتبار السجال الكفاحي بين مستويي الرؤية ، بل مال الكثيرون الى التفسير وحيد الجانب، وهكذا اصبحت العولمة في عرف التعميميين المتسارعين رجس من عمل الشيطان، دونما مراعاة للبعد الموضوعي الإنساني في هذه الظاهرة.
وعلى درب المفاهيم الاصطلاحية التي اختلطت بالايديولوجيا والبروباجاندا السياسية قيل عن النظريات اليسارية العالمية انها مجرد رفض للأديان، وانصراف تام للأفكار الوضعية التي يبتكرها البشر، وقد نسى من قال هذا التعميم ان الاشتراكيات المادية الاوروبية كانت الوعاء النظري الأكثر تقطيرا للعلمانية ، وكانت العلمانية في مفهوم انصار المادية الجدلية تنطوي على ( فصل إجرائي ) بين الكنيسة والدولة ، على اعتبار ان الدولة ومؤسساتها التشريعية معنية بالعقد الاجتماعي الخاص بما يتوافق عليه ممثلوا الامة ، وعلى خط متصل استبعد فلاسفة الجدل المادي الخلط بين القوانين الموضوعية والميتافيزيقا المؤسسة على الغيب ، معتبرين الدين أمر خاص بالفرد وقناعاته ، وقوانين الأرض أمر نابع من اتفاق الامة على مساراتها وتطبيقاتها .
مثل هذه القناعات لم تنطوي علي أي قدر من الإلحاد الذي كان سمة مميزة لبعض الفلاسفة امثال نيتشة وشوبنهاور الألمانيان، وجان بول سارتر الفرنسي، وميرشي الياذا الروماني، وبرتراند راسل الانجليزي.
أي أن التعميم الذي طال كامل المدرسة المادية الفسلفية حول العلاقة بالدين لم يضع بعين الاعتبار النظرات الواضحات لهيغل وفورباخ، ولاحقا كارل ماركس وانجلز، وهؤلاء الألمان الأربعة هم من جسر العلاقة بين المثالية الميتافيزيقية الفلسفية والمادية، بشقيها المثالي والجدلي، مما لسنا بصدد تفصيله هنا، فما يهمنا أصلا واساسا يتعلق بالمفاهيم الاصطلاحية المضطربة، والتي تتباعد عن الجوهر الذي توخاه واضعوا تلك الإصطلاحات ومنظروها.
يدخل في هذا الباب أيضا مفاهيم كالعلمانية والإرهاب ، والديمقراطية ، ومفهوم الدولة الدينية الاتوقراطية ، ومعنى الحكم الرشيد ، وحدود المركزية واللامركزية في الدولة العصرية ، وصولا إلى العلاقات الاشتباكية بالذات الهوياتية، والتاريخ، والدين، والآخر المختلف .
هنا استطيع القول ان الخلط والاضطرابات المفاهيمية ليست نابعة من ضبابية الرؤية فحسب ، بل من السياسات والايديولوجيات المخاتلة .. الباحثة عن تكييف هذه المفاهيم على مقاساتها الخاصة .
في العالم العربي تجري هذه الخلطة غير الرشيدة بطريقة متواترة وسافرة، ويتم استخدام الدين بصورة مغايرة للدين في أصله وجوهره ، وتتبارى الأقلام الموتورة بحثا عن الاصطياد في مستنقعات المياه الآسنة والمنتشرة في طول وعرض الجغرافيا المعرفية الثقافية العربية، ولهذا وجب القول بأهمية التصدي المعرفي المفاهيمي لهذه الفوضى الاصطلاحية السائدة، وتلك واحدة من خرائب معاركنا الاشتباكية مع انفسنا والعالم برمته.