ثمة حرب في أرض اليمن تقودها "ميليشيا" و"جيش يمني" ضد "ميليشيا" و"جيش يمني ودولي"، لكن ثمة حرب أخرى تشتعل في وسائل التواصل الإجتماعي؛ إنها حرب فكرية يقودها قوميو اليمن ضد الأيديولوجيين دينيًا. وبين اللحظة والأخرى، تبرز قضية جديدة أدت بعضها لوقوع قتلى في البلد الذي ينعدم فيه الأمن، ولا يعمل على مُعاقبة المتسببين في ضحايا القتل.
تختلف القضايا التي يتم طرحها بحسب مُتغيرات الواقع. منذ نهاية العام الماضي، وهناك صراع حول القائد اليمني، عبهله بن كعب العنسي. القوميون اليمنيون احتفلوا بذكرى وفاته التي صادفت 30 ديسمبر 2016، واعتبروه قائدًا لثورة حميرية ضد التدخل الفارسي والقُرشي لليمن.
قالوا إنه رجل وطني، وكان ثائرًا ومناضلًا من أجل اليمنيين ومن أجل تحسين أوضاعهم المعيشية المتدهورة مع فرض جباية زكاة لقبيلة "قريش"، وأرهقها النزاع الذي خلقته الفُرس انتقامًا من اليمنيين لدخولهم الإسلام؛ فيما وقف في الجانب الآخر معارضون لهذه الأفكار، مطلقين عليه اسم "الأسود العنسي"، متهمين إياه بالارتداد عن الدين وادعاء النبوة، واعتبروه خارجًا عن الحُكم الإسلامي مما استدعى عقابه، ويرون أن اغتياله ليلًا في غرفة نومه بواسطة مُساعدين كان شأنًا عظيمًا وانتصارًا لارتداده عن الدين.
وفي الوقت الذي اختلفت فيه الأطروحات التاريخية، احتدم النقاش، وخرج عن الإطار التكنولوجي، ووصل إلى مجالس المقيل التي اعتاد اليمنيون عليها. ومؤخرًا، قام قوميو اليمن بتنظيم جهودهم الإلكترونية، مُطلقين على أنفسهم "الأقيال" وهو مصطلح يمني قديم؛ كان يُقال "قيل" أي "ملك"، وهي تسمية خاصة بملوك حِمْيَر الذين يحملون صلاحيات أكبر من صلاحيات مشايخ القبائل.
إعادة قراءة التاريخ:
جاء في كتاب "البداية والنهاية" لابن كثير، أن عبهله خاطب قُريش برسالة شهيرة قال فيها "أيها المتوردون (اللصوص) علينا، أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفّروا ما جمعتم (الزكاة)، فنحن أولى به، وأنتم على ما أنتم عليه". وعلى ضوء ذلك، يقوم "الأقيال" بإعادة تقديم التاريخ الحِمْيَري، يتهمون القوى التي فقدت مصالحها في اليمن بتشويه سيرة "عبهله"، كونه كان رافضًا لمبدأ تقديم الزكاة إلى قبلية قريش بدافع أن فقراء اليمن أكثر حاجة لها، كما كان رافضًا لوجود أتباع للفُرس في اليمن وقال إنهم غير مرغوب بهم، وهذا ما دفعه للقيام بثورة حميرية انتصر خلالها بكل قوة. يتحدث الأقيال عن أن الفرس وقريش اتفقوا على وضع حد لثورة عبهله واغتياله باستخدام أدواتهم في اليمن، واتهموا مصادر التاريخ المُتحيّزة لقريش بأنها قامت بتشويه سمعته واتهامه بادعاء النبوة والارتداد عن الإسلام، مع أن مصادر التاريخ لا تؤكد دخوله في الإسلام، فيما غيّروا اسمه إلى "الأسود العنسي" رغم بشرته البيضاء.
يقول بشير عثمان إن "الحديث عن عبهله يأتي بدافع وطني بحت، فقد ظلت الوطنية والقومية تؤرق اليمنيين طوال تاريخهم، وبالتحديد منذ سقوط اليمن بيد الأحباش وتجدد الصراع، وتنازع الأطراف الخارجية على اليمن، مما عمل على جرح المشاعر القومية والوطنية، لأن القوى الخارجية أشعرت اليمنيين بالإهانة".
ويؤكد أن "التحدي القومي والوطني اليمني يعود إلى سقوط الدولة الحميرية بيد الأحباش، ومروراً بالصراع الفارسي اليمني، ومن ثم اليمني الإسلامي". كان عبهله "أحد أهم أيقونات ومحطات هذا الصراع"، يقول بشير، ويضيف: "من المنطقي استدعاؤه اليوم كعنوان لرفض الهجمة الداخلية والخارجية غير المشروعة، والتي لا تمثل اليمنيين لا من حيث القومية ولا المشروعية السياسية".
الماضي والحاضر... تشابه أحداث:
اليوم، تعاني اليمن من أحداث مُشابهة لما عانت منه إبان ثورة عبهله الحميرية؛ ذات الصراع القائم بين أتباع الفرس (إيران) وبين أتباع قريش (السعودية)، وذات المُعاناة التي تلحق اليمنيين من فقر وتشرد وضياع.
مُعطيات الحاضر المُشبّع بالحروب استحضرت روح عبهله كموحّد لأقيال اليمن ومُحرر لأرضها من الدُخلاء: "لقد كان استثنائياً وقوياً بما يكفي لتحرير اليمن وتأمين استقلالها، وما زال صداه يتردد حتى اليوم في الذاكرة الوطنية" كما يقول بشير.
وأدت الأزمات التي تعصف باليمن إلى تشجيع الناس للبحث في تاريخهم، مثلما يرى غالب العمري، مشيراً إلى أن الناس يسلّطون الضوء على الهوية والانتماء الحقيقي؛ فالمتحاربون اليوم يتقاتلون من أجل أفكار دخيلة، مدافعين إما عن قريش أو بلاد فارس، بعيدين كل البُعد عن الجوهر اليمني الذي يجب الدفاع عنه، فالحرب التي تحدث الآن ليست حربنا كيمنيين.
إستدعاء التاريخ... علاج بالصدمة:
أطلقت الصحفية الكندية، ناعومي كلاين، مصطلح "العلاج بالصدمة" كسياسة اقتصادية تعمل على تغيير سياسة البلدان، وتستجيب لسياسة الرأسمالية العالمية. وأشارت، في كتابها "عقيدة الصدمة صعود رأسمالية الكوارث"، إلى أن حل المشكلات التي تواجه البلدان في الحاضر إنما يجب أن يتم بعد قراءة دقيقة للتاريخ، ومعرفة مكامن الخلل، ومحاولة حلحلتها من الجذور.
قالت: "إن حقبة أزمات كهذه التي نعيشها، هي فترة مُلائمة للتأمل ملياً في التاريخ، التفكير في الاستمرارية، التفكير في الجذور، وهي فترة مُناسبة كي نضع أنفسنا داخل سياق أكثر شمولاً من تاريخ الكفاح الإنساني". وتعتقد أن حالة الصدمة التي تصيب المجتمعات إنما هي نتاج لفقدان تماسك أعصابنا، ونسيان تاريخنا، وإنما هي نتاج لنا عندما نُصبح عاجزين عن التفكير بشكل صائب لما نواجه من مشكلات.
إن استحضار التاريخ النضالي لثورة عبهله الحميرية إنما هو نتاج لمحاولة تجاوز الصدمة التي مازالت تُسيطر على حياة اليمنيين، وصنعت فيهم حالة من الرهبة ليصبحوا غير قادرين على التفاعل مع فقدان حقوقهم.
وفي ظل حاضر مُشوّه ومأزوم بإشكاليات معقّدة، إلى أي مدى يمكن أن تكون استعادة الماضي ومرموزيته هي التي ستنتج فعلًا كافة المعالجات الوطنية اللائقة من أجل مستقبل حديث؟