تساءل المناضل البوسني علي عزت بيغوفيتش في مذكراته: «كيف هي خيبة الأمل»؟ فأجاب نفسه: «تكون بمقدار الأمل نفسه، الأمل الكبير يُولّد خيبةَ أملٍ كبيرة».
خيبة أملٍ كبيرة، داهمت الباحثين عن السلام مع الكيان الصهيوني دهراً، بعد أن وضع لهم عدوهم خيارين لا ثالث لهما؛ الاستسلام، أو سلام الحملان.
ربما أصابتهم خيبة أملٍ أكبر وهم يرون حلم التعايش السلمي مع الجارة الإيرانية يتبدّد على وقْع أطماعها التوسعية في المنطقة.
فكرة السلام الدائم بين العرب وإيران تطرح تساؤلاً مُلحّاً قبل البحث في إمكان تحقّق هذا السلام؛ هل هنالك حرب بين الجانبين في الأساس؟
إجابة هذا السؤال تقع بين ثنايا 47 عاماً مضت، هي عمر الثورة الإيرانية التي أظهرت للعرب في مهدها أنها ثورة على الديكتاتورية والفساد والنخبوية المتمثلة بحكم الشاه، الذي سعى لتغريب إيران والارتماء بين أحضان أميركا.
ونالت الثورة الإيرانية شعبية كاسحة في العالم الإسلامي والعربي، نظراً إلى أن إيران «الخمينية» قدمت نفسها بخطاب (ديماغوجي) ركّز على القضية الفلسطينية والدفاع عن قضايا الأمة، كما اجتذب فئة القوميين بالتركيز على قضايا التَّماس والهموم المشتركة مع العرب، إضافة إلى أن الصبغة الثورية المناهضة للإمبريالية المتمثلة بأميركا اجتذبت أصحاب التوجّه اليساري.
ويرى «تريتا بارسي» أن الخميني اعتمد على النموذج الخاص للإسلام السياسي، والحماسة الآيديولوجية، للتغلب على الانقسام العربي الفارسي وتقويض الأنظمة العربية التي تعارض الطموحات الإيرانية.
على رغم تصريح الخميني الصادم، الذي تلا الثورة بعام واحد، في شأن اعتزامه تصدير الثورة إلى دول الجوار، وتبنِّيه الخيار الصِدامي، وعلى رغم الحرب الإيرانية العراقية التي انحاز فيها معظم العرب إلى العراق، إلا أن الرأي العام العربي ظل على قبوله وترحيبه بالثورة الإيرانية، وبخاصة عندما وصل «رفسنجاني» إلى سدة الحكم في 1989 وعمل على تصدير المشروع عبر آليات سياسية وفكرية، واستغل القوة الناعمة في التوغل داخل البلدان العربية، إضافة إلى استمرار الخطاب الشعبوي الذي يُولي القضية الفلسطينية اهتماماً كبيراً «في العلن».
وعلى رغم أن إيران تضمنت سياساتها تجاه الكيان الإسرائيلي كثيراً من الصراخ وقليلاً من العمل، إلا أنها استفادت من ذلك كثيراً، إذ أظهر خطابها القوي معارضي السياسة الإيرانية وكأنهم مذعنون لتوجّهات الكيان الصهيوني.
قلّة هم الذين تيقظوا مبكراً للخطر الإيراني وحذروا منه، وسرعان ما كشفت دورة الأيام عن مشروع قومي إيراني يرتكز على الطائفية، يسعى لإعادة مجد الحضارة الفارسية على حساب الْتهام المنطقة بأسرها.
لكن إيران عادت في بداية الألفية الجديدة إلى اعتماد المسار الصِدامي العسكري، فهي تستميت في الإبقاء على الأسد في سورية، وتمده بالسلاح وقوات الحرس الإيراني، إلى جانب الدعم اللوجستي، وتعتمد على أذرعها من الميليشيات الطائفية في اليمن والعراق لتنفيذ مخططها، إضافة إلى دورها الفاعل في لبنان من طريق «حزب الله»، الذي ما فتئ زعيمه يصرّح مراراً وتكراراً بأن لبنان جزء من إيران.
وبناء على ذلك، لم يعد ثمة شك في أن إيران دخلت مع دول المنطقة في حرب، وإن كان الصراع في معظم أحواله يجري في صورة غير مباشرة.
ويبقى السؤال: هل هنالك من حلٍ يلوح في الأفق لإطفاء جذْوة ذلك الصراع، كما يأمل بعض قومنا؟
علاقة إيران بالدول العربية خاضعة لُمعضلة استراتيجية، كما يرى الدكتور عبدالله النفيسي، تتمثل بشعورها بالتفوق العسكري على العرب، وإحساسها بالعزلة الثقافية عن الجوار العربي نتيجة اختلاف اللغة والمذهب (العقدي)، ثم أخيراً شعورها بالكراهية تجاه العرب انطلاقاً من استحضار جذور الصراع العربي الفارسي.
ومن يتأمل هذه النقاط يرَ بوضوح مدى الالتقاء والتشابه بين الموقفين الإيراني والإسرائيلي تجاه العرب، فكلاهما يشعر بتفوقه العسكري على العرب، وكلاهما يعيش عزلة ثقافية عن المحيط العربي، إلى جانب الشعور بالكراهية، إضافة إلى ذلك يشترك الطرفان في بيئة العمل، إلا أن إيران تُركّز على العراق والخليج، بينما يُركّز الكيان الصهيوني على مصر والشام، بل لا نكون مبالغين إن قلنا إن هذا التشابه يُعزز القول بأن ثمة شراكة إيرانية-إسرائيلية لمواجهة العدو العربي المشترك.
الحديث عن سلام دائم مع إيران يصطدم بأطماعها التوسعية التي قامت عليها الثورة، وليس الهلال الشيعي الذي أراده الخميني هو المُبتغى، فإيران الخمينية ترنو إلى العالمية من طريق التمدد الإقليمي في المنطقة العربية، ولذا يقول الباحث الإيراني ذو الصلة الوطيدة بالخارجية الإيرانية كيهان برزكار: «لمّا كانت قضايا إيران مرتبطة بالقضايا العالمية، فإن تقوية الإقليمية وزيادة مساحة دور إيران ونفوذها، يمكنه أن يخدم أهداف التوسعة ويدفع المخاطر الأمنية عنها».
الحقيقة تقول: إن إيران سعت جاهدة لتحقيق أطماعها التوسعية في المنطقة العربية من خلال الغزو الثقافي والتغيير الديموغرافي وصناعة الأذرع السياسية والعسكرية في تلك البلدان، واستطاعت، من خلال التوتير المضبوط، التوغل في عدد من الدول العربية، من دون الدخول في حرب مباشرة مع تلك الدول.
ففي العراق، استطاعت إيران جعْل حاضرة الخلافة العباسية محافظة إيرانية، بعدما سهّلت دخول الأميركان إليها، باعتراف الساسة الإيرانيين أنفسهم، وتبادلت الأدوار مع الولايات المتحدة، وتسلمت من الأخيرة زمام الأمور فيها.
وفي سورية لم يعد بشار الأسد سوى دمية تحركها إيران، ودفعت طهران بقواتها من الحرس الإيراني وميليشيات «حزب الله» الموالية لها تجاه الأراضي السورية لِوَأْد الثورة، بل ودخلت في تحالف مع الروس يُرجّح كفّتها في سورية.
وفي اليمن، تخوض قوات الحوثي-صالح حرباً ضد الحكومة اليمنية بمخطط ودعم إيرانيين، أخّرا حسم العمليات العسكرية للتحالف العربي، الذي يعلم أنه لا يواجه سوى إيران على أرض اليمن.
أضف إلى ذلك إثارتها القلاقل والاضطرابات المذهبية في عدد من الدول العربية والإسلامية، من طريق مظلة الولي الفقيه، للدفع بمشروعها الفارسي إلى الأمام، وما التشيع في منظومة العمل الإيراني بالمنطقة سوى «حصان طروادة»، لأن ترويجها الخطاب القومي الفارسي لن يجد له قبولاً في العالم العربي.
السلام لدى إيران مع العرب سيعني التخلي عن أطماعها التوسعية، التي قام من أجلها المشروع الإيراني، لذا نستطيع القول إن احتمالات السلام الدائم مع إيران ليست أكثر قابلية للتحقيق من احتمالات السلام مع الكيان الصهيوني، ليس من جهة العرب، وإنما من جهة الطرف الآخر الحامل لمشروع لا يمكن وصفه إلا بأنه مشروع استعماري بالمعنى التاريخي لدلالات كلمة «استعمار».
تأكيد استحالة حدوث سلام دائم بين العرب وإيران بعيد عن كوْنه خطاباً عدائياً تحريضياً، ولكنه قطْع للأوهام، يستلزم لُحمة داخلية في كل مجتمع من المجتمعات العربية والإسلامية، وحداً أدنى من وحدة الكلمة بين تلك الدول، على قاعدة الضرورة، في ذلك الصراع الوجودي، والتعاطي الجاد مع حقيقة أن التمدد الإيراني في العراق وسورية واليمن بوابة العبور إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة.
كما ينبغي فضح السياسات والممارسات الإيرانية أمام الشرائح المجتمعية كافة، لمنع الاختراق الثقافي والفكري، وكلها إجراءات دفاعية مشروعة، فلتبدؤوا يا قوم.
*نقلاً عن الحياة
* كاتبة أردنية.