معركة صنعاء فتحت الباب لمجموعة تساؤلات كبيرة، وخاصة فيما يتعلق بقوة القرار ونهائيته، حيث أصبح في حكم المعتاد لدى المتابع للشأن اليمني؛ أن كلمات الحسم أصبحت أشبه بوعد عرقوب، والواقع في اليمن يزداد تعقيدا، وتتحكم فيه العواطف الإعلامية أكثر من الفعل السياسي والإنجاز العسكري. في المقابل، من يتابع المشهد عن قرب وبعين منطقية ويحلل الحراك السياسي، سيجد أن اليمن ذاهب نحو مجموعة من الخيارات الصعبة، لن يكون الحسم أحدها في القريب العاجل على الأقل، للأسف الشديد، وسيظل خيار الحسم الخيار الأضعف حتى يتحقق توافق دولي على إسقاط صنعاء (وهو ما لم يتحقق إلى الآن على الأقل)، أو إذا عزمت المملكة على أن تذهب بعيدا عن الإجماع الدولي انتصارا لكرامتها ولتأمين أمنها القومي في خاصرتها الجنوبية، وهي خيارات لا تعاضدها الكثير من المعطيات حتى هذه اللحظة.
لكن في نظري أن تصعيد العمليات العسكرية في محيط العاصمة صنعاء من قبل قوات التحالف وقوات الشرعية، خاصة مديرية نهم، لن تذهب إلى اقتحام العاصمة صنعاء وإسقاط الانقلاب العسكري في الأجل القريب، فالتصعيد العسكري جاء بعد فشل مفاوضات الكويت المارثونية، والتي استمرت أكثر من 80 يوما دون أن تفضي إلى نتائج جديدة وملموسة، مع ترك الباب مفتوحا لجولة جديدة، ما يجعل التصعيد العسكري الأخير استعداد لجولة جديدة من المفاوضات السياسية قريبة. فالمؤشرات على الأرض تذهب في اتجاه تأجيل الحسم العسكري، وتؤكد أنه ما زال بعيد لمجموعة من المعطيات أهمها:
- أن فكرة الحسم وإسقاط صنعاء عسكريا كان تصعيدا إعلاميا على صفحات التواصل الاجتماعي، ولم يكن قرارا سياسيا أو عسكريا من قبل الحكومة الشرعية وقوات التحالف المساند للحكومة الشرعية، وإن كنا لا ننكر وجود تصعيد عسكري على الأرض وتقدم على طول جبهة نهم، لكنه لن يفضي إلى إسقاط صنعاء عسكريا، بقدر ما يسعى إلى تحسين فرص التفاوض، وإرغام المليشيات للخضوع لقرارات الشرعية الدولية، خاصة وأن هناك مشاورات تجري في الكواليس بين أمريكا وروسيا والمملكة وبريطانيا لاستئناف المفاوضات في دولة أخرى.
التحالف العربي ما زال مكبلا بكثير من المخاوف غير المبررة، والحسابات السياسية بشأن وضع المقاومة المساندة للشرعية، وخاصة المحسوبة على التجمع اليمني للإصلاح في اليمن. وأعتقد أن الهجوم الذي شنه العميد المتقاعد آل مرعي على مقاومة تعز وشخص الشيخ حمود المخلافي؛ يأتي في هذا السياق. وآل مرعي رجل عسكري على صلة وثيقة بمصدر القرار الاستخبارتي، ويعكس غالبا ما يدور في الغرف المغلقة، وخاصة المملكة التي لم تحسم خياراتها بعد بهذا الشأن، عكس دولة الإمارات المتحدة التي أعلنت وتعلن بكل وضوح عدم رضاها، بل وعداءها الصريح تجاه المقاومة المحسوبة على الإصلاح، حيث سعت إلى خلق مقاومة تواليها على الأرض. هذا الشك والإرباك لا شك سيكون مؤثرا في تأخر قرار الحسم العسكري، خاصة وأن أغلب المقاومة الشعبية المعول عليها دخول صنعاء تلتصق بالإصلاح، لوجود قيادات كبيرة معروفه بانتمائها للإصلاح، وهو تصنيف خاطئ؛ لأن المقاومة في اليمن خرجت من الإطار الحزبي إلى الإطار الشعبي الوطني وتماهت فيها الحواجز الحزبية الضيقة.
- حالة الفوضى الموجودة في الجنوب، وفي المناطق المحررة الجنوبية بالذات، وانتشار القاعدة وداعش، وارتفاع وتيرة الاغتيالات والاعتقالات للنشطاء السياسيين والمدنيين، خاصة في عدن وحضرموت، تجعل كثيرا من الدول المهتمة بمحاربة الإرهاب لديها تخوف من انتشار الفوضى في حالة سقوط العاصمة صنعاء وانتشار فوضى السلاح، وهي مبررات غير واقعية في مجملها، لكنها مطروحة بقوة ويتم مناقشتها على الطاولات وفي الأروقة السياسية، ورأينا وفد الحوثي يستغلها في مفاوضات الكويت، ويبتز بها القوى الكبرى عند الحديث عن الانسحاب وتسليم الأسلحة.
- ضعف الحامل السياسي الحالي للشرعية اليمنية وضبابية رؤيته لمرحلة ما بعد تحرير صنعاء، فالحكومة الشرعية للأسف الشديد، بوضعها الحالي، ضعيفة وهشة، وغير قادرة على تحمل مرحلة ما بعد صنعاء، كما أنها تفتقد لرؤية واضحة المعالم لما بعد صنعاء بالاتفاق مع شركاء النظال، وأعتقد أن بقاءها بشكلها الحالي يهدف بالدرجة الأولى لإكمال مهام التفاوض القادم مع الانقلابين والوصول إلى تسوية سياسية، فأي حكومة قادمة لن تكون أضعف منها، فعجز الحكومات المتعاقبة للشرعية عن إنجاز كثير من الملفات الخدمية والسياسية وحتى العسكرية، خاصة في المناطق المحررة، رسم صورة سلبية لدى المواطنين والمجتمع الدولي، وأفقدها كثيرا من الثقة.
- غياب استقلال القرار العسكري المستقل، المتحرر من حسابات السياسة والسياسيين، والقادر على تحقيق مكاسب كبيرة ومؤثرة على الأرض. فالمجتمع الدولي يعترف تماما بالإنجازات الموجودة على الأرض، فهو مجتمع واقعي ولد من رحم النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، وبالتالي يتعامل مع الحقائق على الأرض. ففي مصر تعامل مع الانقلاب العسكري لأنه أصبح واقعا، وفي سوريا تدخل لصالح بشار؛ لأنه رقم صعب ثبت على الأرض بغض النظر عن أسباب بقائه والقوى التي دعمته ووقفت إلى جانبه، ومع الحوثيين بعد السيطرة على العاصمة والتمدد خارج العاصمة، وسيكون لهم الموقف نفسه إذا امتلك الجيش زمام المبادرة على الأرض.
- تأكيد المجتمع الدولي على الحل السياسي للقضية اليمنية، وربط ملفات الربيع العربي في سوريا واليمن وليبيا ببعضها؛ لأجل إيجاد نوع من التوازن في الحل، في ظل تردد موقف التحالف من الحسم خلال الفترة الماضية، الأمر الذي يجعل انفراد التحالف بالحل العسكري باليمن بعيدا، على الأقل في الوقت الحاضر، فأمريكا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وروسيا لهم مصالحهم، ورؤيتهم للحل السياسي على حساب العسكري، وهو انحياز جعل طرف المليشيات أكثر تعنتا في مفاوضاته وتمسكة برؤيته بتشكيل حكومة وحدة وطنية قبل الانسحاب من المدن.
للأسف الشديد الملف اليمني يشهد تعقيدا كبيرا. فقرار الحل والحرب للأسف الشديد ليس بيد أطراف الصراع في الداخل، والأطراف التي تدعم قرار الحرب أو قد تدفع للحل السلمي؛ مرتبطة بقوى دولية لها حساباتها الجيوسياسية في المنطقة، ومصالحها الاقتصادية المرتبطة بأمنها القومي وصراعها السياسي التاريخي.. كل هذا قد يؤجل حسم الملف اليمني إلى حين أن تتضح معه رؤية الشركاء الكبار الحاليين أو سنكون بانتظار ترامب أو هيلاري كلينتون ليشاطرانا الحل.