د. عبدالعزيز المقالح
ليس وجود هذه الإمبراطورية غامضاً ، فهي أشهر ما على الكرة الأرضية من قوى التحكم والنفوذ لكن أهدافها فقط هي الغامضة، وليس كل أهدافها بل بعض هذه الأهداف. بوارج هذه الإمبراطورية الغامضة منتشرة في أنحاء كثيرة من العالم وجنودها منتشرون على أكثر مساحة من وجه الأرض. وتسميتها بالإمبراطورية ليس جديداً فهو شائع وذائع تناولته أقلام كثيرة وورد في كتب كثيرة أيضاً. وكان هو الموضوع الأثير لدى المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي الذي أثبت في كتاباته الأخيرة أنها آخر الإمبراطوريات بكل ما لهذه الكلمة من معاني السيطرة والتطلع إلى حكم العالم، وإن كانت قد جاءت متأخرة ولم يعد لها مكان في زمن يختلف عن كل ما سبقته من أزمان.
وإذا كانت هذه الإمبراطورية قد وجدت نفسها بعد انهيار القطب المنافس منفردة فقد توهّم قادتها أن كل شيء قد صار بالنسبة لهم رهن الإمكان، وإن كان ما يحدث من مواجهات ومن تململ إنساني يجعل من المستحيل ظهور إمبراطوريات معاصرة، أو أن تحقق كل ما تطمح إليه الإمبراطورية من انتصارات سريعة ونفوذ كوني يضمن لها البقاء لأطول فترة ممكنة، ومهما بذل قادة هذه الإمبراطورية من تحايل وألاعيب دولية، ومهما امتلكوا من قوى تدميرية مرعبة فإن طريق إمبراطوريتهم مملوء بالمصاعب والمفاجآت الخطرة. وربما تكون هذه الإمبراطورية نفسها هي التي زرعت المخاطر على طريق مسيرتها وأسرفت في وضع العراقيل من خلال قائمة طويلة من الأسباب في مقدمتها غياب مشروع إنساني يحقق لأبناء الأرض العدالة والسلام ويقضي على دابر الحروب التي أخذت حرائقها تتسع وتنتقل من مكان إلى آخر، وهي حروب لا تهدد مصالحها الاقتصادية والسياسية فحسب بل تهدد كيانها الأمني والعسكري.
يضاف إلى ذلك أن هذه الإمبراطورية لم تتمكن منذ انفردت القطبية من حل أية قضية من القضايا التي كانت تؤرق العالم وتشكِّل مناخاً لظهور بؤر جديدة في جسد العالم الباحث عن الأمن والسلام. ويرى بعض المفكرين والساسة الأمريكيين ، ومنهم تشومسكي، أنها تمارس إشعال الحروب وإحياء النزاعات المذهبية والطائفية في أنحاء كثيرة من العالم وفي منطقة الشرق الأوسط بخاصة، وأن بعض ساستها الفاشلين يزيّنون لها هذا الصنيع باعتباره وسيلة لإضعاف الشعوب ودفعها إلى اللجوء إلى الإمبراطورية لتعمل على إحلال التسوية ورأب الصدع، ولهذا فهي ممعنة في الدعوة إلى التفتيت وتجزئة المجزأ، وما ينتج عن هذه اللعبة الخطرة والقذرة من صراعات دموية تهز استقرار العالم وتفتح الأبواب لحروب إقليمية لا تنتهي، وستجني الإمبراطورية عاجلاً أو آجلاً نتائج مريرة ومروعة لما تصنعه.
وكثيرة هي الأدلة التي تثبت أن هذه الإمبراطورية تشارك في تطوير البؤر الملتهبة في أنحاء العالم ومن خلق بؤر جديدة، ومن تلك الأدلة الدامغة ما أحدثه احتلالها للعراق وتدمير مقومات دولته، وإذا كان ذلك الشعب العربي قد عانى مرضاً معيناً ، فإنها باحتلالها أوجدت ما لا حصر له من المعاناة، وليس الأمر مختلفاً في أفغانستان حيث افتتحت الإمبراطورية القرن الواحد والعشرين باحتلالها ذلك البلد الذي سبق لها أن لعبت فيه أدواراً سياسية ابتداءً من سبعينات القرن الماضي وساعدت على إسقاط حكوماته المتلاحقة لتصل به أخيراً إلى ما هو عليه الآن من فوضى وتقاتل التطرف وتصديره، وغياب كل شعور بالأمل أو النظر بعقل إلى شيء اسمه المستقبل. وفي آخر ما نشرته صحيفة مهمة تصدر في دولة الإمبراطورية الغامضة هذا القول الصادق عن أفغانستان بأنه لا يوجد موطئ قدم آمن في تلك البلاد ليسير عليه إنسان.
الخليج