د. صالح عبد الرحمن المانع
أثار قرار السلطات الإيرانية إعادة تقييم قرارها السابق بمقاطعة حج هذا العام، خلال أسبوعين ونصف من بداية شهر مايو الجاري وحتى نهايته، تساؤلات كثيرة بين المحللين السياسيين. فقد كان القرار الإيراني الذي اتُّخذ في الثاني عشر من مايو الجاري بعد المفاوضات التقليدية التي تحصل في العادة بين وزارة الحج ورؤساء بعثات الحج المختلفة، يشير إلى أن تدهور العلاقات السياسية بين طهران والرياض هذا العام قد انعكس على آراء المفاوضين الإيرانيين الذين يرون دائماً أنّ حجاجهم يجب أن تكون لهم أولوية دون حجاج البيت العتيق الآخرين القادمين من مختلف دول العالم. وبينما يأتي الحجاج المسلمون لأداء شعائر الفريضة المقدسة، تصرّ الحكومة الإيرانية و«الحرس الثوري» على إرسال بعض عناصره، تارةً بأسماء حقيقية وأخرى بأسماء مستعارة، لتسيير التظاهرات وخلق الفوضى في مكة المكرمة والمدينة المنورة، متناسين أنّ الحج شعيرة مقدّسة وليس عملاً سياسياً يخدم مصالح الحكومة الإيرانية.
وقد أصرّ الجانب الإيراني في البداية على أن يتم إصدار التأشيرات من السفارة السعودية أو ممثليها في إيران، علماً بأنّ تلك السفارة مغلقة والعلاقات مقطوعة بين البلدين منذ إحراق عملاء «الحرس الثوري» لها وللقنصلية السعودية في مشهد في بداية شهر يناير الماضي. كما طالبت إيران بنقل الحجاج الإيرانيين إلى جدة على متن طائرات إيرانية وسعودية، ورفض الجانب السعودي ذلك، حيث إنّ هناك حظراً جويّاً على الطيران الإيراني، وخاصةً شركة طيران «ماهان» المملوكة لـ«الحرس الثوري»، التي تنقل المقاتلين الإيرانيين وحلفاءهم إلى سوريا، وكانت تنقلهم كذلك إلى اليمن، قبل تنفيذ الحظر الجوي من قِبل القوات العربية والإسلامية المتحالفة.
ويبدو عند كتابة هذا المقال أنّ الطرفين السعودي والإيراني قد توصّلا إلى اتفاقٍ بإصدار التأشيرات عبر رابطٍ إلكتروني سعودي، تُطبع بعده هذه التأشيرات في إيران ويصطحبها الحاج معه عند قدومه إلى جدة. ولم تُعرف بالضبط تفاصيل مسألة النقل الجوي، وهل سيعهد إلى طيران دول ثالثة، أم أنّ شركة طيران «ماهان» الإيرانية، هي الشركة الوحيدة المستثناة من نقلهم.
ويظهر التراجع الإيراني الجديد بشأن مقاطعة الحج أنّ السلطات الإيرانية قد بدأت تستشعر عزلتها في العالم الإسلامي، ولا تريد أن تزيد من هذه العزلة بسبب أعمالها وتدخلاتها العسكرية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وغيرها من الدول العربية والإسلامية، وخاصةً أنّ هذه التدخلات قد استُهجنت من قِبل عددٍ كبير من الدول الإسلامية، التي دانت اقتحام السفارة السعودية، والأعمال الأخرى التي تضطلع بها إيران. وإضافةً إلى ذلك، فإنّ هناك ضغطاً شعبياً على مرشد إيران علي خامنئي، بأن يسمح لعددٍ كبير من المواطنين الإيرانيين العاديين الذين جمعوا كل مدخراتهم للسفر إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، بأداء فريضة الحج.
وربما كان هناك سبب آخر أثّر في قرار السلطات الإيرانية، وهو أنّ هناك إحباطاً كبيراً يسود الكثير من الدوائر الرسمية الإيرانية. فالوعود المعسولة بتدفق الأموال على طهران بعد توقيعها على الاتفاق النووي، لم تثمر شيئاً كثيراً. فإيران استعادت بعضاً من ودائعها المالية المجمّدة في الغرب. وفي البداية، كان هناك حديث بأنّها ستستعيد حوالي 150 مليار دولار من الأموال المجمّدة في البنوك والمصارف الأجنبية، غير أنّ هذا الرقم تضاءل قبيل توقيع الاتفاق إلى أقل من 100 مليار دولار، وأخيراً لم تحصل إيران إلا على أقل من 10 مليارات من الدولارات تصرف جزءاً كبيراً منها على حروبها في سوريا والعراق.
ولا تريد الزعامة الإيرانية أن تقطع شعرة معاوية مع القيادة السعودية، التي بدأت تأخذ مواقف حذرة جداً من إيران، وتريد أن تُهدِّئ العلاقات بين الجانبين، لأنّ الطريق إلى العالم الإسلامي وبقية دول الخليج العربية يمر من مكة والمدينة والرياض، ولا يمكن لطهران الرسمية أن تتجاهل هذه الحقائق.