عبد الحفيظ بن جلولي
كلما تأمّلت الرّاهن العربي تبادر إلى ذهني سؤال التّاريخ والمصير، وضمن هذا وذاك سؤال المدينة العربية العريقة وعلاقته بالإنسان العربي، ولست أدري كيف ألحّت عليّ خيالات اليمن وبابل، راجعت ذهني وضبطت الصّور، وجدت خيطا يربط بين حدائق معلّقة ببابل وعمارات متعالية في اليمن، لكن عثرت بين المعلق والممتد التاريخيين على حالة إنسانية متهالكة نحو الدّمار الشّامل، فكيف يمكن للشّاهق أن ينتج سفولا؟
نظرت في أحوال العربي، فوجدته على الأقل في بعديه البابلي واليمني نتاج ثورة متعالية كامنة في حدائق معلقة وعمارات متعالية، ثم أمعنت النّظر في القضية فأربكني سؤال الامتداد الأفقي، حيث أنّ الصّحراء ممتدّة في الأفق، ولهذا كانت هندسة المعمار العربي محاكية لهذا الامتداد في المكان، فلم تشهد البيئة العربية الشّاهق من العمران لأنّ الصّحراء كانت تمنح العربي امتداد الرّؤية في الأفق، وهو ما يعني تساوق النّظر مع اللامحدود، ولهذا ربّما كانت بنية التأمّل شعرية، لأنّ امتداد الصحراء في فراغ البنية يثير استجابة الذّات للمتخيّل الممتد في اللانهائي، وبنية الشّعر تستجيب في تداعيها المتواشج مع اللحظة الشّاعرة والذّات الغائبة والكون المهاجر إلى الوجدان للفراغ المثير لخيالات التّعبير، إلا أنّ السّؤال الملح يكمن في ظهور العمارة الممتدّة عموديا في اليمن، وانبثاق بنية الشّعر «العمودية» التي لم تستجب لامتداد المكان الصّحراوي في الأفق؟
بين هذا وذاك يبثّ سؤال الامتداد هاجسه في مسار الأسئلة القلقة ليسوق مثال «الحدائق المعلّقة» في بابل، التي امتدّت في الشّاهق، ولكنّ البابلي لم يتفطّن إلى صورة البنايات العمودية، كما هي في اليمن، فمن أين لليمني هذه الفكرة المعمارية؟
قد يكون لفكرة اللاّزمن التي تحقّقت في نقل عرش بلقيس إلى سليمان عليه السلام في أقل من رمشة من العين تفسيرٌ لهذه الظاهرة الخارقة للمعتاد، فاللاّزمن فكرة متعالية جذبت النّظر إلى الاهتمام بالأعلى، ومنه فكرة الإقامة فيه. لكن يبقى سؤال الهدم معلّقا على أسدال سؤال البناء، فاليمني راهنا يدمّر بنية التّعالي ويمسك برميم المدينة ويبكي على قارعة الأرصفة الغريبة في شمال هذا العالم، وكذلك العراقي يبدو أنّه لم يستثمر في «الحدائق المعلّقة» في حينها ولهذا لم يمتد نظره إلى الأعلى، ونبرة الحزن المستمرّة في الموّال العراقي قد تفسّر تجاوز البنية الذّهنية لجمالية الحديقة التاريخية، رغم ما لهذه النّبرة من جمالية، ولهذا فبغداد تدمّر لأنّ الإنسان العراقي لم يسترد لحظته الهاربة في التّاريخ والمعلّقة بين حدائق الإبداع.
تمتحن الذّات العربية جدوى وجودها في اللحظة التّاريخية الرّاهنة التي تلعب فيها قوى التّدمير الذّاتية قبل الموضوعية دورا أساسا في هدم بنية الاستمرار والتواصل مع التّاريخ والواقع والمكان، ولعل ما تشهده الجغرافية العربية من انكسارات عدّة وعلى مستويات كثيرة يجعل التّفكير قائما، بل محرَجا بأسئلة المصير والجدوى. ما جدوى جماعة بشرية لا تعير أدنى اهتمام لمصيرها الوحدوي ـ وحدة البنيات الجمعية ـ القائم على التوجّه الفعلي نحو أفق الإنقاذ والانفكاك من إسار الذات الصّائرة إلى حبال مشنقة اليأس الوجودي، النافر من إضفاء القيمة على الفعل والمتاخم لاستيراد القيمة من الفعل المغاير والمختلف؟ وبهذا تم تطبيق حجزٍ على العقل ومصادرة أفقه النّاظر والمناضل عند تماسّات الذّات مع الواقع والحياة.
يمكن طرح أسئلة المصير، مصير الأمم وكيف استطاعت أن تنهض من بين رمادات وغبار السّنين مندفعة نحو أفق الخروج من عنق الزّجاجة التاريخي الذي يهيكله عجز الإنسان في لحظة تاريخية عن مواكبة مسار الحركة نحو الأمام، وعجز العقل ذاته على تأمل الذّات التاريخية التي تتحرّك في إطار واقع منهار أعمدته نخرة أكلتها الأَرَدَةُ القديمة التي تواطأ فيها الهوى ضد القيمة، أَرَدَةٌ عزلت منبع منطق يختلف عن السّائد، وجعلت الشّعاب موئلا للمعرفة المناهضة والمناقضة.
المدينة العربية وطن الكمالات الجنيالوجية العريقة في محفل الجمال والتّاريخ، مدن تحمل عبق التّاريخ، ومدن تحتفل بأفق انفتاحها على الآخر، فرحة باحتضانها للأمل الإنساني في فضاء التكوّن والحراك الوجودي النّاهض لتوّه من حِجر المغامرة في رسم الخطوة المقبلة في الوجود، ولهذا أجد أنّ هايدغر في تأسيسه الوجودي القائم على فكرة الدّازين أو الموجود في الوجود وبالتّالي الوجود – في – العالم، يبني وجودية الدّازين على حركة لا تقتصر على سلوك وتصرف اتّجاه المعرفة، ولكن الوجود في العالم ذاته للدازين، أي حركة الموجود في الوجود الفعلية في الواقع، وهو ما يؤسّس لفكرة الأثر، أي التاريخ النّاجم عن نضال الإنسان داخل أبنية الجدوى والمصير.
إنّ فعل الهدم الذي يمارسه العربي في كيانيته القائمة راهنا والآيلة إلى الهدم أساسا إنّما يكشف عن تحول في بنية التعليق والامتداد الجماليين، إلى حالة من تعليق وامتداد في الفراغ، فالعراقي معلّق في حدائقه، واليَمَني معلق في عمارته، وبدل أن يمتد العربي التاريخي فوق الحدائق والبنايات وجماليات الذاكرة، عَلِق بها وامتدّ في الفراغ، وقطع مع الجمالية التاريخية واستسلم لانتحار لذيذ لا يمدّه سوى بحلم النّهايات السّعيدة في رومانسيات الإتوبيا الجديدة المقبة من غابات ديمقراطية الغرب.
قد لا يكشف اليمن المنهار عن أيّ بنية معتمدة في أركيولوجيا بنائيته، لأنّ التّاريخ يرسم اليمن في مدى السّعادة والحكمة، فاليمن السّعيد و»الإيمان يمان والحكمة يمانية» كما أخبر الرّسول (ص)، والعراق أيضا قد لا يعكس تاريخيته في إنتاج عراقة المدن والحضارة وتمثل الخصب في بلاد ما بين النّهرين، لأنّ التحوّل في الذّهن والتصوّر لم يكن مواكبا لا لعراقة السد السّبئي ولا للطّمي العراقي، فنهر الشّعر والتأمّل والعلم في اليمن أخذ من الشوكاني.. غزارته ومن البردوني.. حدّته، والنّهر ذاته في العراق أخذ من ابن الهيثم.. إضاءاته ومن السيّاب.. عبوره الفارق في الحياة، ويبقى سؤال العربي المعلّق، وليس الأخير، لأنّ النهايات لا تمثل سوى تلك الانتقائية القائمة على واحدية المسلك والعبور في الكيان الوجودي، والعربي لن يكون أخيرا، لأنّه عالق في حبال كينونة وُجدت أصلا لتجتاز وتتجاوز، فمتى ينفك من رقبة المعلّق ويندرج ضمن كينونة العلائق؟
? كاتب جزائري عن القدس العربي