مطاع صفدي
منذ الأشهر الأولى التي سبقت قرار السعودية بالحرب على المد الشعبوي الكبير للحوثيين واحتلال معظم اليمن، في هذه الفترة الحافلة بالمحفزات المتضاربة بين حدود السلْم أو الحرب شَعَرَ الكثيرون من مراقبي الأحوال العربية أن هذه الحرب سوف تنتج من المتغيرات ما يمسّ معادلاتِ الدرجة الأولى من توازنات الوقائع الاستراتيجية لقواعد ما يُسمّى باستقرار المنطقة العربية ككل، وليس فحسب فيما يتعلق بالخارطة الجيوسياسية الداخلة والمحيطة بالحدث الحربي الإقليمي الجديد. وأهم تغير هو ما يصيب محور الإقليم الجنوبي العربي الذي تتزعمه دولة السعودية. فهذه الدولة سوف تنقلب بين ليلة وضحاها من كونها وطن النموذج الثاني من الحياة العربية الموصوفة بالإستقرار السياسي المتجذّر، وهيمنة الوفرة الاقتصادية والهناءة العصرية بأكلافها الكبيرة والمنتظمة… سوف تغادر السعودية أبرز ما عُرِف عنها من مزاياها الإستثنائية من كونها ذلك البلد الذي تتعاطى ميزانيات مؤسساته الحكومية والأهلية شؤونها المالية من خلال الأرقام الفلكية، من المليارات والتريوليونات، فهل صار عليها حقاً أن تتسلّم قرار الحرب والسلْم، ليس لذاتها فحسب بل للعرب والإسلام جميعاً كما تصبو.
لقد مضت أشهر طويلة رهيبة أتت على اليمن خلالها، وعلى أقاليم سعودية حدودية كل ما يمكن للحرب الأهلية والنظامية أن تأتي به من أهوال مريعة لشعوبها ودمار مفجع لمعالمها المدنية والحضارية. هل اختارت السعودية هذا المصير الرهيب بملء إرادتها، أم أنها من أجل قطع الطريق على الكارثة أو النكبة العُظمى التي ستحل بعالم الجزيرة العربية لو أن الكسراوية ستحل مكان الوهابية في الديار المقدسة إسلامياً وعربياً منذ آلاف السنين.
في الحس الوطني الجديد الذي تثيره المرحلة الحالية من الملكية السعودية أن العدو المتربص الأول لهذه المرحلة هي المؤسسة الدينية الحاكمة في طهران. فكأن ما يُسمّى بالثورة الخمينية لم تحتل إيران إلا لتكريس هذا البلد الكبير بديلاً عن المشروع السعودي العربي كلية، حتى وهو في مواطنه الأصلية من الجزيرة، كما هو ممتد ومنتشر نفوذاً وفعاليةً شمولية في عموم عالم العرب والإسلام. فأركان السلطة الإيرانية لا يخفون أبداً ثقتهم العميقة بقدرة الخمينية على اكتساح العقائديات العربية الأخرى. من ثورية ومحافظة معاً، واكتساب الجمهور الأكبر من الإسلام التاريخي، لكي يصبح هو القاعدة البشرية الأوسع لتحقيق المرحلة المعاصرة من الأمبراطورية الكسراوية التي حطم تواصلها المنتظر ذلك الإسلام العروبي الفاتح، المنطلق من رحم الجزيرة العربية، والطافح حولها، ونحو الجهات الأربع من عالم المدنية القديمة كلها آنذاك.
قد يمكن للمثقف السعودي الجديد أن يدافع عن الهبة العسكرية الضخمة المنخرطة في وعثائها دول الخليج وراء السعودية، وضداً على الهجمة الفارسية نحو العمق الصحراوي العربي ومعه بلاده الخضراء الصامدة. فليست هذه الحرب سوى رد الفعل الأول على التحدي الإيراني الذي نقل الصراع مع العرب من المستوى السياسي العقائدي إلى مستوى الصدامات العسكرية والهادفة إلى تحقيق بعض أعلى وأغلى الأهداف الكلية. إن الكثيرين من مثقفي الجزيرة باتوا يرون أن حرب اليمن تحوّلت إلى نوع الضرورة الإستراتيجية التي لا بد منها، من أجل ألا تبقى بلاد العرب ساحات مكشوفة أمام لاعب وحيد هو الإيراني وأتباعه المحليون. إنها الحرب التي تعري الصراع إلى حدود أصوله العقائدية والتاريخية الأعمق. إنها الحرب الدفاعية التي تستنفر لدى الشعب المستهدف جوهر ثقافته الوطنية المعبرة عن خلاصة وجوده العضوي وليس الإنساني والحضاري وحده.
ليس هذا مجرد شعور يعانيه مثقفو بعض الجيل الصاعد من شباب الجزيرة، مواكبين للملكية الراهنة المختلفة، ليس شعوراً فئوياً أو سلطوياً، بل هو يكاد يعم مختلف الطلائع المتحركة على الصعيد القومي العام. إذ أن التحدي الإيراني فارق خططه الأولى في التسلّل ما وراء شعوب المنطقة وأنظمتها وأحزابها، ها هو يُفاخر أقطابه بعودة امبراطورية كسرى بدءاً من الهيمنة المذهبية لدولة الملالي على أقطار رئيسية للمشرق، من العراق إلى سوريا إلى لبنان، مع الطموح بغزو الجنوب من زاويته القصوى اليمن، لكأنما الخمينية لم تقمْ لإسقاط ديكتاتورية الشاهنامية في عقْر دارها: بلاد فارس، بل كان أول إعلان لاستيلاء رجال الخميني على سلطة طهران هو الانطلاق إلى فلسطين عبر بغداد. فالثورة هي في آفاقها الساعية إلى بلوغها، وليست في مركزيتها إلا كنقطة انطلاق؛ وقاعدة وُثوب على ما هو أبعد من كل حد. ما يعني عملياً أن الثورة ستشتغل على اكتساب طريقها (إلى فلسطين) بتنظيفه من مقاوماته المتوارثة والمنتجة أولاً.. أي أن صراعات الطريق ستطغى على الهدف الأصلي. سوف يشتعل المشرق بأشدّ حرائق المذهبيات والفئويات الغريزية. هكذا دخلت منطقة سايكس بيكو، الأوربية المصدر والتنفيذ، فترة نهايتها، لكي تحتل مكانها خارطة أخرى لنوع الوثَنيات الجديدة المفتعلة تحت الأسماء والآيات القدسية. فمنذ سقوط بغداد تحت النير الأمريكي، صمّمت إيران ألاّ تُبقي على أي حاجز سياسي يُعيق زحفها من أقصى شرقها إلى أقصى مغربها. فالقضاء على الإستقلال العراقي رفع كل السدود الشعبوية ما بين بلاد النهرين وما وراءهما نحو العمق الآسيوي.
هكذا، بعد أن مضت الغزوة الخمينية في مخطط الابتلاع العقائدي لمختلف عناوين الصراعات الجماعية السائدة من قبلها، أجاز دُعاة الفارسية الجدد لأنفسهم أن يعلنوا عودة إمبراطورية (قوروش) لتحتل، تحت جزء من عباءتها السوداء، هذه المساحةَ الشاسعة من القارة الجيوسياسية العربية، وكأن المشرق كله أمسى ضاحية متوسطية لصحارى إيران القاحلة.
أين هو الخطأ الجسيم في هذه الهبّة المهولة لأعتى القومويات الغيبية، صاعدة من قبور التاريخ الوثني الغيبي المتخفي، مدعيّة أنها تبشر بأغلى ثورات العصر الإنساني طموحاً نحو الكمال المطلق. لكن الأمر الأعجب دائماً هو الانقلاب الفُجائي الذي يعكس أنبل المعادلات الأرقى في السلوك العام والفردي إلى أسوأ مباذلها من الحضيض اللاإنساني. فالنهضة العربية المعاصرة لم تتعثّر بهزائمها العسكرية المشينة وحدها، بقدر ما زعزعت ثوابتها النفسية من الخلفيات البشرية المتدافعة. فلم تأتِ الثورة الخمينية كإضافة نوعية إلى رصيد الشرط الثوري العام الذي كان يحرّك العالم الثالث، ومنه عالمنا العربي والإسلامي. لم تُصحح الخمينية ضلالات قوموية كثيرة وقعت فيها ثوريات النهضة لستينيات وسبعينيات القرن الماضي. لم تجلب الخمينية معها الحصة الروحية المنقوصة إلى جفاف السياسات الموسوسة بالمطابقة مع الأمر الواقع التي تنبع هي من شروطه شاءت أم أبت. بل كان المحصول ركاماً بائساً.
لماذا أُريد للخمينية أن تنقلب سريعاً إلى نوع من الصهيونية، المضادة حتى عميق نخاعها لكل ما هو عربي وإسلامي مشروع عند ذاته أولاً. تلك هي الخاصية المميزة لعصر انهيار الإمبراطوريات الكلاسيكية المتجذرة في جيولوجيا حضارة العنف المسيطرة على تاريخ الإنسانية حتى اليوم. إنها الخاصية التي تقرن سيطرة النموذج الإمبراطوري بالحاجة إلى صنف الأحلاف الآلية مع الشعبويات الواسعة بطريق الجذب العقائدي الأصم. إنها الحاجة إلى تسييد المرجعيات الكليانية ذات التوصيفات الإستبدادية والغيبية معاً. حتى أهم ثوريات القرن العشرين الناشطة تحت ظلال الماركسية الغربية ومعها سلالتها الفرعية شرقاً وغرباً، كانت مهووسة أولاً بتصنيم الوثن الأكبر للجماعة تحت هالة المثال السوفييتي. فيمكن القول أنه إذا كان القرن العشرون هو قرن الأيديولوجيات الكبرى بلا منازع، فذلك لأن كل مرجعية، كالماركسية والنازية وكافة العنصريات العدوانية أو شبه المسالمة الأخرى، قد تحولت من بؤر أفكار معقمة إلى مناهج حراك عمومي موجّه إلى الأعداد الكبرى من الجماهير. أصبحت المرجعية أو الأيديولوجيا الشعبوية أحدث صناعة لتجهيز قوالب التفكير الإنساني والتنظيم، الحكم والإدارة والتمنية. وفي هذا الخضم من صخب هذه الكليات المسيطرة على أجواء العالم منذ أوائل القرن الماضي، انطلقت من تحت زخمها تلك اليقظةُ العروبية الجديدة، محاذرة منذ البداية ألا يستحوذ النموذج المسيطر لهذه الأدلجة المطلعة على القليل من أفكارها المتواضعة حول التحرير. لكن كان لها طموحُها إلى إنشاء الدولة الحديثة لهذه الأمة الباحثة دوماً دون جدوى عن وحدتها السياسية كتعبير استحقاقي عن وحدتها كجوهر إنساني، قلما اعتُرف لها به ثقافياً عالمياً على الأقل، منذ عصور.
هنالك من المفكرين الغربيين من يقول أن العرب جلبوا على أنفسهم إشكاليات المرجعيات منذ أن اخترع بعضهم «ثقافة» القومية العربية. فجعلوها مصدر إلهام وتشريع لأحدث وأشمل حركاتهم الوجودية والتحريرية، وبالتالي فإن كل مطمح للسيطرة الكليانية، لمرحلة ما بعد القومية العربية، ينبغي له أن يتمتع بالقدرة الاستقطابية لأوسع تنويعات النموذج الفكري وصنوه العملي للجماعات الفاعلة في الميادين العامة. فقابلية الإنجذاب للأدلجة لدى الجماهير الكبيرة المهمشة قد تكون أحياناً أقوى من فعالية الإيديولوجيا نفسها.
تعتقد الخمينية لدى بعض روادها أنها جاءت تصحيحاً لحقبة القومية، وللتعويض عن فقدانها السريع مع انطفاء زعيمها السياسي التاريخي عبد الناصر. فهي تظهر في نفسها أنها قادرة على توفير المرجعية العقائدية تحت أوضح عواملها التكوينية وهي من جذر روحي خالص لأنها تطرح ذاتها على أنها هي النقيض الحقيقي والوحيد للعلمانية. بينما كانت قومية العرب أحرص ما تكون دائماً على التوازن الروحي والمادي معاً دون طغيان لأحدهما على الآخر.
حرب المرجعيات الكليانية المتسلّطة عامة على الشعوب المستضعفة، لا تزال تخترع وقائعها الكارثية. وهذا الحاضر العربي المتأجج بما دُعي بالبركان الربيعي الفاشل، لا يزال يقدم (يهدر بالأحرى) أهمّ فُرصه النهضوية يجعلها ضحايا تعيسة على مذابح هذه القومويات المصطنعة. إنه هنا يخوض معارك طواحين الهواء الفارغة، وهو يعتقد أنه ينحت الصخور الأساسية لبناء أهرمات المستقبل القريب في حين إذا ما قدّر للبعض أن يشيد أهراماً ما فإن رواده منذ الآن، يقلقهم سؤال كيف يمكن الدخول إلى ما وراء جدرانه الصخرية العالية؛ وإذا ما دخلوا كيف يمكنهم أن يجدوا أبواب الخروج من دهاليزه المظلمة، يوماً ما.
? مفكر عربي مقيم في باريس