د.عمر عبدالعزيز
يتأرجح المشهد اليمني الماثل بين طرفي الموروث التاريخي من جهة، والمستجدات العالمية المشمولة بإكراهات وجودية وثقافية، مازال بعض الضالين اليمنيين يتأبُّون عليها من جهة أُخرى، وحتى نختصر المسافة بين الحقيقة الوجودية والمأمول، المقرون بالقوانين الموضوعية التاريخية، يجدر بنا الإشارة إلى أن أوروبا التاريخية العتيدة قد تكون المثال الأكثر مشابهة لما نحن عليه الآن، في الزمنين الثقافي والمجتمعي العربي. ومن مفارقات الدهر أننا لا نعيش القرون الوسطى الأوروبية، لكن بعضاً من تقاليد تلك القرون وأوهامها الدينية والمجتمعية مازالت حاضرة في ساحاتنا وأروقتنا المفتونة بالجدل البيزنطي الفارغ من محتواه، وبكيفيات مفارقة لما هو مضوعي وجبري كما أسلفت.
كان علماء الكلام الديني بشقيه التفسيري والتأويلي يتنابزون في أوروبا التاريخية، أثناء ظلامات القرون الوسطى، ويتغلفون بالدين، فيما كانت الحقائق الأرضية تشير إلى صراعات دنيوية ممسوسة بالسلطة والمال والجاه، وكان خطاب الإيديولوجيين الدينيين الحارسين لنظام القهر والاستباحة الإقطاعي، منساباً مع ثقافة التكفير والقتل، ورفض العقل والحكمة.
تلك الحالة تعيد إنتاج محتواها الظلامي في اليمن، كما في كثير من جغرافيا العالم العربي المأفون بفساد الأنظمة، واستغراقها في أوحال البؤس والعدمية.
بالمعنى الواقعي الشامل، مازلنا نعيد إنتاج القواعد الأخلاقية والسلوكية، وحتى السياسية لتلك القرون، رغماً عن ضرورات العصر المترع بثمار المعرفة والتكنولوجيا، وحتى العولمة الموضوعية، كظاهرة لا فكاك لنا منها. هنا نلاحظ درجة التعارض السافر بين الوعي المقرون بالحداثة، والوجود المسحوب من أنفه صوب الإقامة في الماضي التليد، وتلك معادلة أكروباتية كوموتراجيدية، لا يمكن حلها بالتسويات والطبطبات على الرؤوس، ولا بالترغيب والترهيب الفاقدين لأسباب استمرارهما.
قبل أربع سنوات اندلعت المظاهرات الشعبية السلمية العاتية في عموم المدن والقرى والنواحي اليمنية، فبادر زعيم النظام علي عبدالله صالح، باستخدام أداة الترهيب من خلال قتل المتظاهرين المسالمين، في ما سُمِّي يومئذ بجمعة الكرامة، وعندما تيقَّن ومن معه، أن الترهيب لم يعد مجدياً، بادر باستخدام خيار الترغيب، واعداً بتأمين نصف مليون مكان عمل للعاطلين!، وكفالة مليوني أُسرة فقيرة، من خلال نظام شامل للحماية الاجتماعية للفقراء والمعوزين والمرضى!.
لكن هذه الوعود جاءت في الوقت الضائع، فبقدر سخاء الكلام المباح من قبل الرئيس السابق علي عبدالله صالح، لم تتنازل الجماهير عن طلبها الجوهري في إسقاط النظام، وهذا ما يحدث الآن عملياً، فالنظام لم يُسقط بعد توقيع المبادرة الخليجية، بل ظل ممسكاً بأدواته التقليدية.. ناشراً ظلال الكآبة المجتمعية الشاملة، من خلال متواليات التخريب المتعمد لمصادر الطاقة، والاغتيالات المجرمة للكوادر المدنية والعسكرية، والإيهام المُخاتل بالمشاركة في العملية السياسية الانتقالية الحكيمة التي جاءت كاستتباع جوهري للمبادرة الخليجية، في الوقت ذاته، الذي كان رأس النظام الملفوظ جماهيرياً ينسج تحالفات مريبة مع المشروع الانقلابي المدعوم بنزعة إمامية لاهثة وراء الولاية الاستيهامية المفقودة.. النابعة من منطق سلالي عقيم، وتسويغ ضمني لنظام ولاية الفقيه الإيراني.
هكذا ظهر نظام صالح، الذي كثيراً ما تشدق بثورتي سبتمبر وأكتوبر، ووجد نفسه عارياً أمام مشروع استعادة الإمامة المندثرة، بصيغة أكثر تخلفاً وهمجية.
هذه الحالة خلقت نوعاً من الفصام السيكوباتي بين نظام صالح وعموم الجماهير الفقيرة، بل بين ذلك النظام والعالم السوي، والشاهد على ذلك إجماعان عربي ودولي، تمثَّل الإجماع العربي في المبادرة الخليجية وعاصفة الحزم، وتمثَّل الإجماع الدولي في رعاية تطبيق مرئيات المبادرة الخليجية، وصولاً إلى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216 والمُجيَّر على البند السابع.
من خلال التوطئة السابقة، يحق للسائل أن يتساءل: لماذا المقارنة بأوروبا القرون الوسطى؟ وما هو مفهومنا لأوروبا التاريخية ؟ وهل أوروبا بجملتها حالة واحدة بالمعاني الثقافية والمجتمعية؟
مثل هذه الأسئلة مشروعة جداً، وتحتمل بطبيعة الحال إجابات متعددة، فأوروبا الموحدة جغرافياً وتاريخياً، ليست موحدة ثقافياً بالضرورة، ذلك أن القارة العجوز ورثت تنويعات الرؤى والفلسفات والمدونات اللاهوتية على قاعدة من التعدد اللغوي والديني، مما هو مرصود في الأنساق اللغوية المتنوعة لاتينياً، وسلافياً، وجرمانياً وأنجلوسكسونياً، وقد كان لتلك الأنساق صلة بالجغرافيا الثقافية التي شهدت محطتي تناقض كبيرين، فقبائل الفايكونغ الشمالية كانت قبائل بدائية متوحشة، فيما كانت الأعراق اللاتينية في جنوب القارة، وبالتوازي مع حوض البحر الأبيض المتوسط مغروسة في أساس وتضاعيف الحضارتين الإغريقية، والهيلينية اللاتينية اليونانية، ومن علامات التاريخ الثقافي الأوروبي أن هذا التنوع في السياق الثقافي الإنثربولوجي، انعكس على التنويعات المسيحية المتعارضة حد التناقضات والحروب البينية، كما جرى الحال بين الكاثوليك ذوي المنابت اللاتينية الأكثر نعومة ومرونة، والبروتستانت ذوي المنابت الجرمانية الأكثر قسوة وشكيمة، وفي المقابل كانت أوروبا الأرثوذكسية السلافية أقرب إلى روح المسيحيات المشرقية المهجوسة بمركزية الحق والوعد على الطريقة الأرثوذوكسية.
أليست هذه الخريطة الدينية الإيديولوجية، المشمولة بنزعات قومية شوفينية، وأُخرى قبائلية بدائية سمة تعيد إنتاج نفسها في التواريخ المسطورة للبشرية المعذبة بالملل والنحل، وبطريقة أكثر فداحة وفولكلورية، عندما نقارن بين حالنا اليوم، وحال أوروبا القرون الوسطى، ورغماً عن الزمان المتغير وأحواله المتقلبة؟!
الجامع المشترك الأعلى بين العرب وأوروبا التاريخية يكمن تماماً في انبعاث أديان التوحيد الإبراهيمي من البيئة العربية التاريخية، فالأديان السماوية الثلاثة تشترك في هذا المُتَّحد الجمعي المقرون بواحدية التوحيد الديني، عطفاً على الأنبياء والرسل، موسى وعيسى عليهما السلام، ومحمد «صلى الله عليه وسلم»، وفي القلب من معادلة التوحيد إبراهيم الخليل، عليه السلام.
لكن تلك الواحدية في مصادر العقائد والأديان الثلاثة، تقاطعت مع تدوينات الكلاميين المخطوفين بالدنيا وزخرفها وسلطانها وبيانها ومقارباتها، ما أفضى إلى صراعات دنيوية صرفة، تقمَّصت المُقدَّس، وواجهت به المخالفين، فيما سيَّجت نفسها بالتدوينات النابعة من التفاسير والتأويلات، فبدت الأدبيات الملحمية الكبرى للأديان بمثابة مفارقة ضمنية لجوهرها.
هكذا تبدو الحالة. يترنَّح الجميع في معادلتي التاريخ الوجودي والوعي الضميري من جهة، كما بين قطبي الأنا والآخر من جهة أُخرى، ولعلنا في قلب السؤال الاستقطابي الحاد، عندما نتحدث عن أنفسنا، وعن الغرب الأوروبي التاريخي دينياً وسياسياً، فالعالم العربي يقبع في قلب هذا السؤال، واليمن تمثل الحالة الأكثر بياناً ونصوعاً في هذا الباب.
الخليج