د. حسن مصدق
لا تستطع الدول الكبرى دعم قوتها وفرض هيمنتها دون أن تجعل من الممرات البحرية ومضايقها وسيلة وهدفا في نفس الوقت لسياساتها الخارجية والعسكرية، حيث يشير الأميرال الأميركي ألفريد ماهان إلى أن القوة البحرية هي في صلب ودعامة القوة الاستراتيجية العالمية. ومن يسيطر على البحار يسيطر على التجارة، ومن يسيطر على التجارة يكون الأقوى.
وتجري اليوم العديد من الصراعات في مناطق مختلفة من العالم، تبدو وفق حملات الدعاية لأسباب مختلفة، في حين أن السيطرة على الموانئ والممرات والمضايق البحرية الاستراتيجية هي المحرك الرئيسي لمجرياتها. ولا تحظى الموانئ والمساحات البحرية عموما بنفس الأهمية بالنسبة إلى دول العالم، حيث يتم الرهان على تلك التي تتميز بموقع استراتيجي.
من هنا، يفسّر جانب من جوانب الصراعات الدائرة في المنطقة العربية ذات الأهمية الجيواستراتيجية الفريدة، حيث تشكّل المضايق والقنوات التي تقع في مفترق الطرق البحرية الكبرى النظام الإقليمي الرئيسي في الضفة الجنوبية لبحر الأبيض المتوسط، وهي تطل على منطقة شرق آسيا عبر البحر الأحمر، وبحر العرب وبحر عمان.
وفي هذا الجزء من العالم يقع مضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس، وبالقرب منها يقع غربا مضيق جبل طارق، ويقع شرقا مضيق مالاكا في آسيا الشرقية، مما يجعل من المنطقة ممرا أساسيا للملاحة الدولية وطريق الحرير الذي يمر منه النفط.
وفي الضفة الأخرى من العالم، بدأت القوات البحرية اليابانية والصينية والروسية تبحث عن موطئ قدم لها في المحيط الهادي وبحر المتوسط، وعلى طول الساحل الأفريقي، وذلك إدراكا منها بأن القوة الاقتصادية والقوة البحرية متلازمتان لحماية مصالحها الحيوية.
وبدأت هذه القوى تدريجيا بالتحكم في عدة نقاط عبور في جنوب شرق آسيا، وتسعى روسيا، بالأساس، إلى فكّ أي محاولة لعزلها شمالا وجنوبا، وذلك بضمان الوصول إلى البحار الدافئة، وتأكيد حضورها في المحيط الهادي، وحوض البحر المتوسط والقطب الشمالي المتجمد. ويساعدها ضم جزيرة القرم على البحر الأسود على النفاذ الدائم إلى بحر مرمرة. هذا في الوقت الذي ما زالت الولايات المتحدة تمارس هيمنة مطلقة في بحر الصين الجنوبي، والبحر المتوسط، وسائر المحيطات.
وقد عملت أميركا باكرا على تمتين روابطها التجارية والعسكرية البحرية بإطلاق أساطيلها في مياه المحيط الهادي والخليج العربي والبحر المتوسط لضمان الوصول إلى منبع النفط والإشراف على إمداداته، حيث تعتبر مضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس ومضيق جبل طارق ومضيق ملقا جزءا من أمنها القومي الاستراتيجي، وهي مضايق وقنوات بالغة الحيوية الاستراتيجية في تأمين مسالك التجارة العالمية.
المضايق البحرية العربية الهامة
إن كانت الدول الكبرى قد وعت هذا الأمر مبكرا من منطلقات الأفكار الاستعمارية، فإن الدول العربية تفطنت متأخرا إلى هذا البعد الاستراتيجي للموانئ والمضايق والممرات البحرية رغم ما تكتسيه من أهمية بالغة بالنظر إلى ارتباطها بصادراتها الطاقية أساسا. ولا جدال اليوم في كون المضايق والممرات المائية العربية تلعب دورا كبيرا في المسرح العالمي، لا سيما تلك التي تتميز بموقعها الجيوسياسي الذي يؤثر في التفاعلات الدولية بشكل كبير؛ وهذه الممرات هي:
مضيق باب المندب: يلعب مضيق باب المندب الذي يقع بين اليمن وجيبوتي دورا هاما في الربط بين البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي، وهو نقطة العبور الأساسية للسفن التي تعبر قناة السويس. وتكمن أهميته في كونه يصل بين البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب، وينقسم إلى شقين: القناة الشرقية المعروفة بباب إسكندر (عرضه 3 كم، وعمقه 30 مترا)، والقناة الغربية المعروفة بدقة المايون (عرضها 25 كلم، وعمقها يصل إلى 350 م)، حيث ينساب المضيق نحو بلدان القرن الأفريقي، ويمتد طريقه البحري إلى سريلانكا وملاكا، حيث يلعب الدور الأهم في نقل البترول. وهذا الهدف البحري الذي بات يغري العديد من اللاعبين الإقليميين يشكل اليوم الرهان الأهم بالنسبة لإيران التي حركت الحرب في اليمن عن طريق الحوثيين حتى تتمكن من وضع يدها على هذه المجال الحيويي.
قناة السويس: يكتسي خليج السويس بعد فتح قناة السويس التي تربط بين البحر المتوسط والبحر الأحمر، وتم تعزيزها بقناة السويس الجديدة على طول 35 كيلومترا في موازاة القناة الأساسية، أهمية كبرى في طريق الذهاب والإياب من/ ونحو المتوسط. وتكمن أهمية قناة السويس في كونها تختصر طريق المرور عبر رأس الرجاء الصالح بنحو 8000 كلم. أما خليج العقبة ، فهو يمتد عبر سواحل الأردن والمملكة العربية السعودية، ومصر، ويضيق في ممر تيران الذي تحيط به الشعب المرجانية.
ويشتعل الصراع على قناة السويس بين عدة قوى شرقية وغربية، نتيجة تضارب المصالح البريطانية والأميركية الفرنسية والإسرائيلية، والمصالح الروسية والصينية هناك، بالإضافة إلى تأثيرات ارتفاع وتيرة الحرب في سوريا، وسعي روسيا والصين فرض نفوذهما في الشرق الأوسط. حيث تؤكد التقارير الأميركية أن جزءا هاما من أسهم هذا الميناء أصبح على ملك الصين، ما يؤهلها لتكون ملعبا هاما لاستعراضات القوة بينها وبين الولايات المتحدة مستقبلا.
مضيق باب المندب يلعب دورا هاما في الربط بين البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي، وهو نقطة العبور الأساسية للسفن التي تعبر قناة السويس
مضيق جبل طارق: يبلغ عمق مضيق جبل طارق حوالي 300 متر، وأقصر مسافة بين ضفتيه 14كلم، ويربط بين المتوسط والمحيط الأطلسي، وهو يقع تحت إشراف أسبانيا والمغرب وجبل طارق، ويعد بمثابة بوابة المتوسط نحو الأطلسي، وقد عزز المغرب أهميته بميناء طنجة ميد لاستقبال السفن التجارية العملاقة.
وتتواتر الخلافات بين المملكة المتحدة وأسبانيا بسبب مضيق جبل طارق، حيث تصر بريطانيا على سيادتها على المنطقة التي حصلت عليها سنة 1713 بناء على معاهدة أوتريخت والتي لا تتجاوز مساحتها سبعة كيلومترات مربعة ويسكنها ثلاثون ألف نسمة. وما تزال المشاحنات مستمرة لا سيما أمام تنامي أهمية هذا المضيق من سنة إلى أخرى بالنظر إلى عدة متغيرات اقتصادية وأمنية في العالم.
مضيق هرمز: يبلغ عرض المضيق 40 كلم ويصل طوله إلى 63 كلم، وهو الممر الذي يسمح بالملاحة بين الخليج العربي والمحيط الهندي، حيث يعبر من خلاله أكبر حجم عالمي من المحروقات و90 بالمئة من إنتاج البترول الخليجي و30 بالمئة من البترول العالمي: ? من الخام يستهلك في الولايات المتحدة، و¼ في أوروبا و? في اليابان، وهو ما يميزه عن سائر المضايق البحرية العالمية، حيث تدرك جميع الدول الكبرى أهميته بالنسبة للتجارة الدولية، وأن أي توتر يصيب بالضرر البالغ مجمل التجارة العالمية.
وهذه الأهمية تفسّر محاولات إيران للسيطرة على المضيق من جهة شرق الجزيرة العربية وأيضا من العراق شمالا الوصول إلى المدخل الجنوبي للبحر الأحمر-بداية من خليج عدن ومضيق باب المندب- هي الحلقة الثانية لتحقيق مخطط التحكم في تجارة البترول العربي الذي يخرج إما من مضيق هرمز شرقا، أو باب المندب غربا. لذلك يكمن الرهان الأساسي في تجنب أي تصعيد أو أي توتر أو صراع قد ينشب يؤثر سلبا على تأمين حركة الملاحة البحرية، خاصة في ظلّ التهديد المتكرر من طرف إيران بإغلاق المضيق. ومؤخّرا، أجرت إيران مناورة بحرية وصفتها بـ”الضخمة” على مدى 5 أيام، بالقرب من مضيق هرمز في الخليج العربي.
بالإضافة إلى هذه الممرات الرئيسية، هناك طرق دولية تشمل طريق شمال الأطلسي الذي يربط بين سانت لوران- بنما- جبل طارق ومنطقة كالي الفرنسية، وطرق شمال المحيط الهادي، وتمتد عبر سواحل شمال الولايات المتحدة الأميركية ( بنما- جينو)، ثم تتركز حول شبكة كثيفة على طول ساحل وجزر آسيا الشرقية: من هوكايدو اليابانية إلى ملقا (ممر مائي يقع بين شبه جزيرة ماليزيا، وجزيرة سومطرة الإندونيسية، ويقدر طوله بحوالي 900 كلم، بينما يتراوح عرضه بين 50 و 320 كم، ويمثل ما بين 20 بالمئة و25 بالمئة من النقل البحري الدولي).
مجمل القول، إن مراقبة الطرق البحرية، وخاصة منها المضايق والقنوات تظل بالنسبة إلى القوى المهيمنة رهانا جيو- سياسيا، وهو ما يفرض على الدول العربية تطوير أساطيلها البحرية وتطوير موانئها وتأمينها بالاعتماد على قواها الذاتية وعقد تحالفات استراتيجية متنوعة، في ظل واقع يفيد أن السيطرة على هذه المساحات هي مفتاح التحكم الإقليمي والدولي.
نقلا عن العرب