انقلاب ميليشيوي يسعى أصحابه إلى إلباسه شرعية شعبية صعبة المنال، وشرعية سياسية غير متاحة، وشرعية ثورية قوامها استخدام العنف. ذلك هو الوضع اليمني، ويمكن ببساطة اختصاره بأنه نتاج غباء استطاع بقوة السلاح أن يصنع حالاً سياسية صعبة الإدارة، وباتت تستدرج غباءات أخرى تزيد الوضع تعقيداً. وما يرجّح هذا الغباء أن من يعرف اليمن وتاريخه وطبيعة الأزمة المتفاعلة فيه منذ منتصف تسعينات القرن الماضي وصولاً إلى «ربيعه العربي» قبل أربعة أعوام، لا بد أن يدرك أن النتائج الراهنة للتحرك الحوثي كانت متوقعة منذ أوائل العام الماضي عندما أكمل السيطرة على محافظة صعدة ثم زحف على محافظة عمران وصولاً إلى يوم اجتياحه صنعاء في 21 سبتمبر الماضي.
فالحوثي يأتي من تجربة كان يفترض أن يتعلّم منها، إذ تحدّى الدولة وجيشها وتمكّن من الحفاظ على تمرّده مستفيداً من جملة عناصر أخرى كوجود حالٍ انفصالية في الجنوب وانتشار لتنظيم «القاعدة» في بعض المناطق. أي أن «الدولة» المعترف بها مبدئياً وصاحبة القوة الأكبر في البلد لم تتمكّن من فرض سيطرتها، فكيف لتنظيم «أنصار الله» أن يفعل خصوصاً إذا استند أساساً إلى مذهبيته الشيعية وإلى ولاء اشتراه بالمال وبقوة الأمر الواقع من بعض القبائل. لم يكن الحوثي ليمثل بديلاً للدولة في أي سيناريو متصوَّر، ولا كان بإمكانه أن يفرض نفسه مهيمناً وحده على الدولة، ولأنه كان يعي ذلك فقد بحث عن حليف ووجده في الرئيس السابق علي عبدالله صالح، متجاهلاً أولاً أن هذا الحليف أصبح مرفوضاً شعبياً، وأن الدوافع الانتقامية هي التي جعلته يتقرّب منه، وثانياً أن صالح يسعى إلى إعادة استثمار نفوذه في «الدولة العميقة» بغية العودة إلى السلطة عبر ترئيس نجله محمد.
لكن التقاء طموح الحوثي لأن يصبح «شريكاً» رئيسياً في الحكم مع جشع صالح الذي كان حاربه سابقاً، ما كان ليشكّل مشروعاً لاستقرار اليمن أو لتعزيز الدولة أو لمكافحة الفساد أو للحفاظ على وحدة الشمال والجنوب، بل سرعان ما تبيّن أنه يستطيع إشعال حرب أهلية تتفتّت معها الدولة أجزاءً متناثرة. وقام الحوثي بالخطوات الأولى عندما طرد خصوم صالح من آل الأحمر من مساقط رؤوسهم في عمران ثم طاردهم مع حلفائهم من «الإخوان المسلمين» وأجبرهم على ترك بيوتهم في صنعاء، وبالمقابل بادله صالح بتأمين تواطؤ وحدات عسكرية معه. غير أن عملية نشر السيطرة اصطدمت بالمجتمع الذي بات يرفض عودة صالح بأي شكل، كما يرفض سيطرة الحوثي إذا كانت جزءاً من مشروع يريد فرض مذهب على المذاهب الأخرى، أو جزءاً من أجندة إيرانية لا غرض لها سوى استخدام اليمن كورقة نفوذ ضد بلدان الخليج عموماً وضد السعودية خصوصاً.
اصطدم الحليفان اللدودان بواقع أن كليهما يفتقد «الشرعية». فلدى علي صالح نفوذ في البرلمان والجيش وليست لديه شرعية. أما الحوثي الذي كان متمرّداً فإنه لم يسعَ سابقاً إلى دخول المعادلة السياسية، لذلك اشترط على الأطراف الأخرى التوقيع على «اتفاق السلم والشراكة» كي يسحب قواته من العاصمة بعد أن يُعطى حصة في الحكومة وفي صنع القرار، ولم تمانع تلك الأطراف إشراكه باعتبار أن هذا من حقه وأنه يستطيع الآن الحصول حصة من خلال تسويةٍ ما في انتظار الانتخابات. لكن قوات الحوثي بقيت وراحت تضع يدها على مؤسسات الدولة، لا سيما العسكرية، أي أنه أخذ بالقوة ليس فقط ما يفوق حصّته بل ما بات يعطّل الدولة نفسها ويضعف شرعيتها. ويبدو أن الرئيس عبدربه منصور هادي اعتقد أن حاجة الحوثي إلى «شريك شرعي» قد تشجعه على عقد «صفقة» معه والتخلّي عن صفقته مع علي صالح. لكن الحوثي كان أكثر احتياجاً إلى تواطؤ الجيش معه فراح يمارس الترهيب على هادي الذي رضخ وسايره قبل أن يبدأ بالتمنّع عن الاستجابة لإرادته، إلى أن اضطر للاستقالة بعدما أخضع الحوثي حرسه ووضعه في إقامة جبرية وأبلغه أنه لن يفرج عنه إلا بعد الموافقة على مطالبه.
في كل المراحل نجح التنسيق بين الحوثي وصالح في التلاعب بالوسط السياسي اليمني، وبالمبعوث الأممي جمال بن عمر، بل كان توقع استقالة هادي واستعد لتفعيلها بموافقة مجلس النواب عليها، ما يعني تلقائياً - والتفافاً على الإعلان الدستوري - انتقال صلاحيات الرئاسة إلى رئيس المجلس يحيى الراعي الموالي لصالح. وبالتالي يعود الأخير إلى الحكم، ولو بالوكالة، حليفاً وحيداً للحوثي. وفي هذه الحال سيتغيّر موقف العسكر، ويصبح الحوثي أسير أهداف صالح وألاعيبه، ويصبح الصدام العسكري معه حتمياً إذا تعذّر توافقهما على توزّع المغانم. وإذا عاد ولاء العسكر لـ «الدولة» في هذه الحال فإن الحوثي يخشى خسارة المكاسب التي انتزعها من الرئيس هادي. لذا طرح المبعوث الأممي حلاً للفراغ في الحكم بإنشاء «مجلس رئاسي» مؤقت يترأسه هادي على أن تبقى حكومته (المستقيلة أيضاً) ويتضمّن حلاً مؤقتاً لمسألة إشراك الحوثي، ولا يبدو الأخير بعيداً عن طرح هذه الفكرة التي تبعد عنه مسؤولية إدارة الدولة كما تعفيه من شراكة حصرية مع علي صالح. ولكن حتى هذا الحل يتطلّب من الحوثي تنازلات لا يستطيع تقديمها الآن، وأهمها أن يسحب ميليشياته من مؤسسات الدولة ويعيد كل ما نهبته منها، كما يتطلّب إجراءات تلزم علي صالح وربما تلزم الحوثي بلجم طموحات حليفه.
وهكذا تبدو اللعبة مقفلة وأصبح الجميع أسرى لها. فلا الحوثي مؤهل لإطاحة الجميع والاستئثار بالدولة. ولا علي صالح يستطيع العودة بمفرده. ولا هادي يمكن أن يواصل إدارة مرحلة انتقالية تفاقمت تعقيداتها. ولا القوى الراعية للمبادرة الخليجية قادرة على التدخل مع بروز»الفيتو» الروسي. ولا الولايات المتحدة مستعدة الآن للبحث عن تسوية مع إيران... وفي الأثناء تمعن الفوضى في دفع المحافظات والأقاليم والقبائل إلى التباعد والتشظّي.
/العرب القطرية/