د.عبدالرحيم العطري
كثيرة هي الطاقات التي تُهدر خطأً واعتسافاً في «زمن الأخطاء»، كثيرة هي احتمالات العطالة في «مجتمعات الهدر» التي تُصِرُّ باستمرار على الانتصار لفكرة «الاستثمار في الحجر» بدل «الاستثمار في البشر». فالبطالة، وقبل أن تكون إلغاءً لفاعلية الإنسان الاجتماعية والاقتصادية، وفرملةً لإمكاناته وممكناته، فهي تؤشر إلى اختلال بنيوي يَسِمُ النسق العام، ويكشف العطب القديم في التفاوض مع الواقع.
فكيف نفهم هذا الانتقال القسري أو الطوعي الذي يمارسه آل الريف، بهجرتهم إلى المدن؟ ما الذي يحسم ويُبرّر هذا النزوح؟ وما مآلات هذه الهجرات؟ هل تقود فعلاً إلى حيازة «انتماء مديني» وعمل قار، وفقاً لما تأسس في شروط إنتاج الهجرة؟ أم أنها لا تنتج إلا «فلاحاً بلا أرض»/«نازحاً بلا هوية»؟
جاذبية المدينة
لقد «ناضل» الإنسان منذ خطوه الأول، من أجل بلوغ «الخبز» وتحصين أمنه الاجتماعي، وفي سبيل ذلك لم يتردّد في الهجرة وامتشاق دروب الحياة، بعيداً عن الديار، فالعمل هو ما يمنح الاعتراف والمكانة، وتحديداً في مجتمع يتأسّس على التراتب والتمييز بين من يشتغل ومن لا يشتغل، وأساساً بين من يملك أو من يفتقد الخيرات الرمزية والمادية. من هنا نفهم كيف تواصلت سيول الهجرة باتجاه المدن، بحثاً عن عمل يُثمر «كرامةً» وارتقاءً في السُلَّم المجتمعي. فالمدينة يتم تمثلها في المخيال القروي كفضاء منتج للعمل والمال وكل المتع الممكنة والمستحيلة، ولهذا يتوجّب الالتحاق بركبها، لكن هل تقدّم لهم إمكانية اللقاء بأفق الانتظار المتوقّع؟
من المؤكد أن هناك عوامل مركبة تقف وراء الهجرة من الريف إلى المدينة، لا تَنْحَدُّ فقط عند هاجس العمل، فالمدينة تغري القروي بما تتوافر عليه من خدمات ومتع وإمكانات أخرى لا تنوجد بين أحضان القرى، لهذا يصير الانتماء المجالي إليها هدفاً أثيراً، يمكن أن يبيع من أجله، الفلاح، الأرض ويُفرّط في انتمائه الأصلي. فالسيول البشرية المُنْدَلِقة من الأرياف نحو المدن، في شكل هجرات موسمية أو دائمة، لا تكون بمحض الصدفة، بل هي نتيجة لأسباب إيكولوجية، سياسية، اقتصادية، اجتماعية ونفسية أيضاً.
لقد هاجر الإنسان قبلاً من مكان إلى آخر بسبب العوامل الإيكولوجية، فالجفاف مثلاً يدفع المرء إلى الهجرة وذلك بحثاً عن الكلأ والماء، فرهان البقاء استوجب من كثير من الجماعات البشرية الانتقال نحو عوالم جديدة بحثاً عن ظروف أنسب للعيش الكريم والمريح في آنٍ. كما يغدو العامل السياسي أكثر وجاهة في تفسير واقعة الهجرة، وذلك اتصالاً بالحروب الماحقة وعدم الاستقرار السياسي، فالحروب والنزاعات تحتم على المرء المغادرة حفاظاً على الحياة، ما يؤكد أن هاجس البقاء هو الدافع المُحرّك لكل أشكال الهجرات.
إن سيرورة إنتاج عالم من «الفلاحين بلا أرض»، والتي تنبني على فعل الاجتثاث القروي ستساهم فعلاً في الرفع من حِدّة النزوح، وخلق واقع قروي داخل المجال المديني، وتحديداً في هوامشه، حيث تنتشر أحياء الصفيح وباقي ألوان السكن العشوائي المنتجة للعطب والباثولوجيا الاجتماعية التي تختزل بلغة السوسيولوجيا الحضرية في «ترييف المدن».
مأزق «التنقيد»
يصل القروي إلى المدينة، مُفرِّطاً في أرضه وهويّته، ومُنتقلاً إلى بحث جديد عن انتماء حضري، قد لا يتحقّق إلا بشقِّ الأنفس، فلا يجد غير الهامش مسكناً، وغير العمل أو اللاعمل مآلاً، فالمدينة في البدء كانت بحاجة إلى السواعد القادمة من الريف، لكن بسبب تواتر الهجرات وارتباك الحسابات التنموية، وعُسْر المخرجات الاقتصادية، كانت النتيجة انسداداً في آفاق العمل، وتنامياً لجحافل العاطلين أو المهدورين.
وبذلك، وبدل أن تكون المدينة منتجة للثروة والعمل، ومحققة لأحلام النازحين إليها، غدت مؤسسة للإقصاء والاستبعاد الاجتماعي، فلم يعدْ في مقدورها تلبية مطامح الوافدين إليها، ولا حتى تأمين سكن كريم لهم في مركزها أو هامشها. بل إنها تبدو عاجزة أحياناً عن توفير أقصى درجات «السُلَّم الاجتماعي» للفئات المتنافسة في سجلها العام.
تحتل قيمتا العمل والمال مرتبة أعلى في سُلَّم القيم، وهو ما يُفسر بالتحوّلات التي عرفتها البوادي المغربية، بسبب دخول النقود، وانتقال بنية الاقتصاد والعلاقات الإنتاجية، من اقتصاد عائلي معاشي، إلى آخر مرتبط بالسوق، وبِقِيَّمِ السوق، التي أفرزت «سلطة النقود» والعمل المأجور. ذلك أن تنقيد (من النقود) العلاقات الاجتماعية داخل البوادي، كان من أبرز محفزات الهجرة إلى المدينة بحثاً عن عمل، فمع دخول الاستعمار، سيغدو الفلاح أجيراً، «مطلوباً» كيدٍ عاملةٍ في المصانع والمقالع والمباني في المدن، إلّا أن هذا الطلب سينخفض مع توالي السنوات، لتصير العطالة والهدر واقعاً يصادف من يريد الالتحاق بالمدينة. فمن فلاح بلا أرض إلى نازح بلا سكن إلى مُعطّل بلا هويّة، إنها أقوى احتمالات «الانتقال الخبزي» من الريف إلى الهدر.
تعاني المدينة المغربية والعربية عموماً، من «إخفاق اجتماعي» يَنْبَرِزُ في العطالة التي تُهدّر بسببها طاقات وثروات، بل وفرص نماء وتقدّم، فالشاب الذي يتخرّج في الجامعة في سن الرابعة والعشرين، يبقى في حالة إهدار لإمكاناته، لأزيد من عشر سنوات، عَلَّهُ في النهاية يجد عملاً لم يفكر فيه قبلاً، ولا تهيأ له أصلاً، ما يجعل المجتمع لا يستفيد بالمرّة من الأجيال التي استثمر فيها، بل يُسهم، بتهميشها، في إنتاج «جيوش احتياطية» من الغضب والاحتقان ومختلف الأعطاب.
إن المحفز الرئيسي للهجرة من الريف إلى المدينة، هو العامل السوسيواقتصادي، الذي يروم تحسين الأوضاع الاجتماعية، والانتهاء من حال العطالة إلى العمل والفاعلية، لكن هذا المتغيا يصطدم بسوء الأحوال المدينية، ما يجعل هذه الهجرة، وضداً على محفزها الرئيسي، تتحوّل إلى مُنتِج للفقر والعطالة، ليتواصل الإخفاق في تدبير العلاقة بين المدينة والقرية، ويستمر مسلسل الفرص الضائعة.
جذور التوتر
إن العلاقة بين البوادي والمدن بالمغرب كانت تتأثر بتقلبات الطبيعة والحكم، ففي لحظات الجفاف لا تتردّد قبائل البوادي في الهجوم على المدن، على اعتبار أنه يتوافر لها الرخاء، وهو ما كان يحدث باستمرار في علاقة قبائل «لعرب» مع مدينة الرباط، وقبائل عامر وحصين مع مدينة سلا، وقبائل الحياينة مع مدينة فاس، وهو ما تكرّر، بشكل أو بآخر مع الرحامنة في علاقتهم بمراكش.
وهذا يعني أن علاقة البادية/المدينة تجاوزت تلك الخطاطة القائلة بأن«البادية تخصّصت عادة في الإنتاج الفلاحي، والمدينة في الإنتاج الصناعي، لتكون العلاقة بينهما علاقة تبادل اقتصادي»، فليس هذا الشرط المنفعي التبادلي هو ما يؤسس العلاقة ويبررها، فثمة عناصر أخرى تتعلّق بما هو سياسي ثقافي يهم النسق في مجموعه. فالمدينة -وكما يقول عبد الرحمن المودن-، «تجسيد ووسيلة للسلطة المخزنية، ومن ثَمّ فإن مواجهة القبيلة تتخذ طابعاً سياسياً.. فالمواجهة تكون تعبيراً عن صراع اجتماعي واقتصادي». وتكون أيضاً عبر استضمار تاريخ نفسي اجتماعي من التمثلات والتمثلات المضادة. ذلك أن الهجرات لا يتوجّب فهمها من داخل مقترب اقتصادي يبحث عن الغائب في البادية/الحاضر في المدينة، وإنما هي حركيات مجالية وسياسية تروم إعادة كتابة تاريخ النسق وفق نمط جديد من توزيع واقتسام الثروة الرمزية قبل المادية.
إن القروي/المهدور النازح إلى المدينة، لا يبحث فقط عن عمل، وإنما يبحث عن «حق» مهضوم، في سياق توزيع الثروة، إنه يمارس حِراكاً مجالياً واجتماعياً، بحثاً عن ممكنات العدالة الاجتماعية التي تُنهي واقع الإقصاء، فالنزوح باتجاه الخبز، هو «تمرين» سياسي، قد لا يكون واعياً، يستهدف المقاومة والاحتجاج ضداً على أزمنة الهدر التي تتواصل في مجتمعات الهدر، فمن يصيخ السمع لآهات وزفرات النازحين/المهدورين؟
مجلة الدوحة