قديماً قالَ الشاعرُ الجاهِليُ المنُخَّل اليشكري يصفُ عشقَهُ لـ "المتجردة" زوجة النعمان بن المنذر :
وأحبُّـــهَا وتُحبـُّــنـــي ويحبُ ناقتَها بعيري
ومع أنَّ هذا العِشق أودى بهِ إلى المهَالك مقتولاً ولم يُعرفُ لهُ قبر ، بل أفنيت قصائدهُ وجُعل القتلُ لمن يحفظها ، ولم تكتب النجاة إلاّ لقصيدةٍ يتيمةٍ وهي الّتي ختامُها البيتُ الأنفةُ الذِّكر .
أما حديثاً وفي عصرِ الحرب لا الحبّ فقد اختارَ البعيرُ طريقاً أخرى نأى بنفسِهِ فيها عن عشقِ ناقةِ الحبيبة ، وخاطب العاشقُ معشوقتَهُ بلغة أخرى ..
أميرةُ قلبي :
أخبري ناقَتك الشّقراء أنّ بعيريَ الأسمَر لم يعُد مشغولاً بها ، فقد شغلته الحَربُ عن الحُب ، والاشتغال بالسّعي في السوقِ عن الجري وراء النُوق ، وجلَّ همه "افراخٍ بذي مرخٍ زغب الحواصل" ينتظرون عودته ببعض كيلو من دقيق عليه شعار الامم المتحدة!، أو بـ 100 ريال روتي ماركة "أبو قلم" ، ديناً على مذهبِ "شَاشْقِي وشَانْدِي" مِن فرن "عبده الزِقيلمْ" ، أو كيس من العيش على نفس المذهبِ من بقّالة "سعيد الهَيش" ، ترى الواحدَ منهم كانّه القِرطاس في رِقّته ، ونصفُ الكفِّ في لفتِهِ واستدارتِه ، وبين طريق ذهابهِ وإيابهِ يشغلُهُ عن ناقتِك التفكير في قوتِ يومهِ وليلته .
أخبري ناقتك أنّ بَعيري يعملُ بجدٍ نَهاره كله ، ولا يسدُّ راتبهُ رمقَه ، ولا رمق صغارهُ ، وأسقط "السَقَطُ" اسمهُ من كشوفاتِ المنظمات ، وفارقته الهِبَاتُ والمُساعدات ، وصُرفت للذين يلمِّعون الأحذيةَ في أروقةِ صاحبةِ الجلالة ، الّتي تطفل عليها ذوي البطالة والنَّذالة ، ومع هذا لازالَ متوكلاً على الرزَّاق ، ومسلماً أمُورهُ إلى القديرِ الخـلاق ، لكنَّ الحُب أضحى عنهُ في موضعٍ قاصي ، كمَا يبعدُ عن الذكرِ والعبادة العَاصي .
بَعيري شغلهُ عن احتضانِ من يحبُّ حلمهُ باحتضانِ "سلة ميرسي كور"، فإنّها قد جاوزت جوعهُ وفقره ، وحلَّت في ضيافةِ المُقتدرينَ غيره ، وشغله عن كتابة "مسجات" الشوقِ والغرام كتابةُ شعارات مقاومة الظلمِ والجُور ، وأما "برنامجُ الغِذاء" فقد صارت أغذيتهُ تباعُ في حَوانيتِ الأثرياء ، وألقت الحرب بظلالِها على قلبهِ الضَعيف ، فأمسى أضعف مِما كان ، وماصار لهُ فِي مضمارِ الحبِ مَكان .
بَعيري يا سيدتي شغلهُ عن الحُبِ والشوقِ خوفهَ أنْ يخرجَ فلا يعود إلاّ ضحية من ضحايا حرب القلةِ المُشاغِبة على الكَثرةِ المُسالِمة ، وحين يرى الدمار والخراب يشغل بالَهُ كيف سيسالمُ الشّعبُ مَن صنعَ كلّ هذا ، وكيف ستتلاقى الأكف حين تُوقَّع الاتّفاقات ، وتعجُّ الأجواءُ بالخطبِ والاحتفَالات ، وكأننا كنَّا لسنواتٍ نتبادلُ القُبل لا القنابِل ، وصُحون "الصَاصْ" لا زخات الرّصَاص .
المعذرة منكم قُرّائي الأعِزّاء ، عزمتُ أن أتحدث عن الحُبِّ لكنّ ظروف الحربِ طغت على حُروفي فحرفت مسارها ، ولي أملٌ أن تتوقف هذهِ الحربُ فنشدو جميعاً بألحانِ الحبِ الشجية ، وغداً سيكون أجملُ بإذن اللهِ .
دُمتم سَالمِين .