الأرشيف

مصر التى فى اليمن: قبل أن تبدأ الحرب الحقيقية

الأرشيف
الثلاثاء ، ٣١ مارس ٢٠١٥ الساعة ١٠:٤٠ صباحاً

أحمد محجوب


قبل ثلاثة وخمسين عاماً، وصل إلى القاهرة د. عبدالرحمن عبدربه المرادى البيضانى، وبيده وثيقة من 5 بنود، كان ثوار اليمن قد حددوها لنجاح ثورتهم. فى القاهرة اجتمع البيضانى مع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وصلاح نصر، مدير المخابرات العامة، وأنور السادات، عضو مجلس قيادة الثورة، ليطرح عليهم تصوراً لإنجاح الثورة اليمنية ضد النظام الملكى المدعوم من بريطانيا والسعودية والأردن، ومن خلفهم المعسكر الغربى كله تقريباً.

نقاط البيضانى التى حددها كانت بينها 3 نقاط تخص «الشقيقة الكبرى»، النقاط الثلاث كانت تتمثل فى بناء وتوسيع ميناء الحديدة (جنوب غرب اليمن)، للاعتماد عليه كحلقة وصل بين القاهرة والثوار، تمر عبره الآليات العسكرية، وربط الميناء بشبكة طرق ونقل لاستخدامها فى الأعمال العسكرية والدعم الإعلامى.

القاهرة وافقت على مضض، وتورطت رغم أنفها بنحو 70 ألف جندى، فى حرب شوارع (من بيت لبيت)، حتى صدمتها النكسة وثلث الجيش فى اليمن يقاتل الأشباح. وتستنزفه القوى الإقليمية وتغرقه الحماسة فى مستنقع المزايدات.

? ? ?

منذ بداية الضربات الجوية التى تقودها الرياض ضد معسكرات الحوثيين وقوات على عبدالله صالح ونجله أحمد (الحرس الجمهورى والقوات الخاصة)، والجميع ينتظر لحظة بدء المعركة الحقيقية، فالعالم كله شاهد آلاف الأطنان من المتفجرات تنهمر على الجيش الصربى لدفعه بعيداً عن كوسوفو، وهى الضربات التى استمرت ثلاثة أضعاف المدة المقررة لها، وخرج منها الجيش الصربى (على الأقل قواته البرية الضخمة)، جريحاً لكنه لايزال قوياً.. وشاهد المصريون فى حرب الخليج الثانية 34 دولة بقيادة الولايات المتحدة، تستمر فى الضربات الجوية (أكثر من 110 آلاف ضربة) لمدة 43 يوما (بمعدل نحو 2600 غارة يومياً)، وبإجمالى قوة تدميرية بلغت61 ألف طن من القنابل الحديثة، التى صمم بعضها خصيصاً لدك الحصون العراقية. رغم ذلك تمسك الديكتاتور العراقى صدام حسين بالكويت حتى جاءت العمليات البرية، وظل محتفظاً بجانب حاسم من قواته المدرعة (الحرس الجمهورى خاصة)، نجح عبره فى قمع الأكراد فى الشمال والشيعة فى الجنوب، وظل ممسكاً بزمام الحكم حتى الغزو فى 2003 (رغم كارثية الغزو وجرائمه).

الوضع فى اليمن يختلف كثيراً، فليس لدى تحالف الحوثى- صالح، نصف قوة الجيش العراقى المهول، ولا قدرات الجيش الصربى (المدعوم مباشرة من موسكو)، لكن بالمقابل ليس لدى التحالف العربى ربع قدرات تحالف تحرير الكويت، ولا إنقاذ كوسوفو، لا على مستوى المعلومات الدقيقة، ولا التجهيز التكنولوجى، ولا حتى نصف قدرات 34 دولة بينها أمريكا وبريطانيا وفرنسا بخلاف مصر وسوريا والسعودية.

الجميع يدرك (فى الرياض والقاهرة وصنعاء وطهران)، أن الضربات الجوية «عطلت» تقدم الحوثيين نحو عدن (آخر بقعة تناصر النظام المدعوم عربيا ودوليا)، لكن بالمقابل نجح الحوثيون فى معارك تعز قبل الضربة، ومدينة الشفرة خلال الضربة، ونجحوا فى إحكام الحصار حول عدن، وإغلاق كافة الطرق البرية المؤدية إليها، وأصبح سقوط المدينة مسألة وقت لا أكثر، لتصبح حكومة الرئيس هادى، حكومة منفى.

? ? ?

المعارك الجوية ضد قوات لا تملك قدرات دفاع جوى معتبرة، هى مسألة استعراضية أكثر من أى شىء آخر، لكن ما جرى مساء أمس الأول، وحتى فجر أمس، يؤكد أن طريق التدخل البرى بات مسألة وقت أيضاً، مثلما سقوط عدن مسألة وقت.

فى هذه اللحظة تبدو القاهرة وكأنها لا تريد أن تعود بالزمن إلى العام 1962، ويتذكر القادة فى القاهرة مرارة الوجع اليمنى، ويحاولون إبعاد «الذكريات السيئة»، عن رؤوسهم.

لكن الجميع سواء فى 1962 أو 2015، لم يستمعوا جيداً لنصائح البيضانى (وهو من مواليد القاهرة وتوفى فى 2012)، فالرجل الذى أعد خطته فى مدينة جرميش الألمانية، كان يدرك أن بلاده بحاجة لتدخل وليس للتورط، وهو بنفسه حذر المسؤولين فى القاهرة من نقيضين، الأول أن يتجاهلوا اليمن، والثانى أن ينقلوا أمراض الجهاز البيروقراطى الذى يحكم القاهرة إلى ساحة القتال.

يبدو اليوم وكأن البيضانى بيننا مرة أخرى، يحدثنا عن نقاطه الخمس، ويقول لنا: «لديكم منطقتان فقط للتدخل، ميناء الحديدة، ومدينة عدن على الترتيب»، فالرجل الذى وضع «وصفة التدخل»، لو كان بيننا اليوم، لأدرك أن الرياض والقاهرة ستتحملان عبء اليمن لسنوات، ولقال للحليفين إن الأزمة اليمنية مجرد «درجات سلم»، فليس هناك «نصر ساحق» فى بلد يبلغ تعداد سكانه 24 مليون نسمة، والسلاح الشخصى لمواطنيه هو الكلاشينكوف، وليس الحوثيون كائنات فضائية، بل هم جزء من النسيج اليمنى (25% من السكان تقريباً).

اسألوا البيضانى قبل أن تتحركوا، فالضربات اختلفت على مدار اليومين الماضيين، واستهدفت (بخلاف السيطرة الجوية المتحققة بسهولة) أرتال المدرعات فى تعز ولحج، ومناطق التمركز فى صنعاء والضالع، وقواعد السيطرة فى العند الجنوبية، وكذلك مخازن الأسلحة فى عمران.

كل هذه الضربات التى اختلفت خريطة أهدافها تأتى بالتزامن مع مناورات برية سعودية (القوات الخاصة والمشاة الميكانيكى) مع قوات باكستانية (تشكلها بالأساس قوات الصد)، أما على الجانب الآخر، فيهدد الحوثى باستخدام صواريخ قادرة على ضرب العمق السعودى، حسب زعمه.

*

أمام هذه التحركات المستمرة فيمكن القول بأن الحرب الفعلية ربما تبدأ قريباً جداً، وإن توجها عاما وضع اللمسات الأخيرة والخطط البديلة، وحدد أهداف التدخل البرى بهدف حسم المعارك التى أتوقع أن تطول.

ما يهم القاهرة هو ضمان «موطئ قدم» للحكومة الشرعية، والسيطرة على ميناء حاسم مثل الحديدة، فضلا عن التمركز فى أرخبيل الجزر اليمنية الغربية (كمران وحنيش وميمون)، والاتفاق مع الحكومة الإريترية على إجراءات لوجستية فى ميناء مصوع، وكذلك الحكومة السعودية لترتيب فتح قاعدة جازان البحرية أمام القوات المصرية.. بهذه الإجراءات فقط نتحدث عن «إدارة رشيدة للأزمة».

حتى الآن يتحدث البيضانى (وهو يمنى مصرى) من قبره، ناصحاً القاهرة بأن تبعد «الموظفين» عن «عملية اليمن» برمتها، وألا تتورط أبعد من حدود عدن والحديدة، وأن تسعى لإجبار أكبر ميليشيات الخليج على العودة لمربع العقل وإعادة إحياء اليمن.

يدرك البيضانى أن القاهرة قلقة، فلا تستطيع مصر تحمل تكلفة تحكم إيران فى جنوب السعودية وباب المندب، ولا تستطيع الانتقال من مربع المشاركة إلى مستنقع التورط، انسياقاً وراء طريقة الاستعراض الجوى فى سماء غير محمية جيداً من الأساس.

تحتاج القاهرة لفهم خريطة اليمن، وأن تدرك جيداً أن هادى ورقة تفاوض ضعيفة للغاية، وأن البحث عن بدائل لديها ظهير قبلى (خاصة فى حاشد وبكيل وعمران)، مهمة تحتاج الكثير من الفهم، بالمقابل، تحتاج القاهرة أن ترسل رسالة واضحة لميليشيا صعدة، مفادها أن مصر لن تتورط، لكنها لن تترك الرياض لتنهشها عصابات الملالى فى إيران، وأن أمن المملكة لا يمكن التفاوض حوله.

تعيش القاهرة «بين نارين»، فلا هى راغبة فى دخول معارك مذهبية، ولا تريد لنفسها أن تتحول إلى فيلق ضمن فيالق مصالح الرياض.. الخلاصة: القاهرة تريد أن تربح نعم، وتريد أن تحمى مصالحها فى اليمن وباب المندب نعم، لكنها لا تريد أن يتحدث أحد باسمها، ولا أن تتحدث هى باسم أى عروش فى المنطقة.

على القاهرة أن تكون أكبر من الحماسة، فالدول لا تنفعل، وأن تكون أكثر حزماً من العواصف، فالدول لا تستعرض قدراتها أمام الميليشيات.. على القاهرة أن تكون محطة التفاوض القادمة والواجبة، وعليها أن تهيئ مسرح عمليات منضبطا، تديره هى وليس الآخرون، فى نفس الوقت على القاهرة أن تستعد بدار ضيافة يكفى لجمع شتات «الكل» فى اليمن الذى كان سعيداً.

 

/نقلا عن المصري اليوم/

 أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)
أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)