معتز بالله عبدالفتاح
مما هو معلوم بالضرورة أن اليمن تلحق بليبيا وسوريا والعراق وهؤلاء يلحقون بلبنان والصومال والسودان وفلسطين.
من يقرأ دراسة «جريجورى جوس» بعنوان «ما وراء الطائفية.. الحرب الباردة الجديدة فى الشرق الأوسط»، الصادرة عن مركز بروكنجز الدوحة، يستنتج أن ضياع هذه البلدان ليس بسبب عوامل داخلية فيها فقط ولكن لأنها أصبحت ساحة للاستقطابات والصراعات الإقليمية والدولية التى أصبحت المنطقة مسرحاً لها.
منطقة الشرق الأوسط متعددة الأقطاب: السعودية، مصر، إيران، إسرائيل، تركيا، هذه الدول ليست حلفاء دائماً ولا أعداء دائماً، وإنما هى جميعاً فى علاقة التحالف ضد الأقوى من بينها وعادة ما يكون برعاية قوى دولية، وتحديداً الولايات المتحدة.
لكن هذه المرحلة تحديداً، وفقاً للدراسة، تعيش حرباً باردة، تتحول إلى حروب ساخنة بعضها بالوكالة، تلعب فيها إيران والمملكة العربية السعودية أدواراً رئيسية؛ «فهذان الفاعلان الرئيسيان لا يتواجهان عسكرياً بل يتسابقان على النفوذ فى الأنظمة السياسية الداخلية فى الدول الضعيفة فى المنطقة»، كما تقول الدراسة.
السعودية اتخذت من إيران، وإيران اتخذت من السعودية، العدو الأكبر، وأصبح إدراكهما لمصادر التهديد متطابقاً. من تدعمه السعودية فى سوريا عدو من تدعمه إيران، ومن تدعمه إيران فى العراق عدو من تدعمه السعودية. وهكذا الأمر تماماً فى لبنان واليمن والبحرين.
طبعاً هناك فارق بين السعودية، التى هى نظام محافظ يميل لحد بعيد للحفاظ على الأمر الواقع، وإيران التى لم تزَل ترى أن دورها أن تصدر ثورتها للدول المحيطة بها.
كل دولة من الدول الكبرى تسعى لأن تفرض رؤيتها لمصالحها على الطرف الآخر، من خلال دعمها للفعالين غير الحكوميين الموجودين على أراضى الدول الأخرى مثل «الحوثيين وداعش وجبهة النصرة والإخوان والصدريين والميليشيات الليبية»، وكما قال جريجورى جوس: «يكمن النجاح فى الحرب الباردة الجديدة فى الشرق الأوسط فى أن تتمكن قوة إقليمية من دعم العملاء غير الدوليين والحلفاء بفاعلية فى معاركهم السياسية الداخلية فى الدول الضعيفة»، والمسألة ليست مرتبطة هنا بالقوة العسكرية؛ لأن «أكبر قوتين عسكريتين فى المنطقة، إسرائيل وتركيا، لم تتمكنا من لعب دور فعال فى الحرب الباردة كما فعلت قطر، الدولة الأكثر حجماً إقليمياً من حيث القوة العسكرية التقليدية، وتتطلب الرعاية الفعالة للحلفاء الإقليميين المال والسلاح حتماً، لكنها تتطلب أيضاً روابط أيديولوجية وسياسية».
وتنشأ تحالفات بين قوى إقليمية غير عربية وبعض الدول العربية، مثلاً: وقفت تركيا وقطر داعمتين للانتفاضات والثورات العربية التى أعطت مساحة سياسية كبيرة للإخوان المسلمين كى يخرجوا إلى قمة المشهد السياسى، فما كان من السعودية إلا أن تبنت الخط المعارض تماماً بالتحالف مع الإمارات والكويت وغيرهما من الدول التى رأت فى الإخوان خطراً يهدد وحدة الجيوش واستقرار العروش، وها هى تعود مصر إلى الفضاء الاستراتيجى الأكثر دعماً للتحالف الخليجى (باستثناء قطر) فى مواجهة إيران وتركيا من ناحية أخرى.
انهيار الدول العربية ناتج عن ضعف البنية الداخلية للكثير من الدول العربية، وعلى رأسها الدول الأربع المشار إليها. ولنأخذ العراق مثالاً: «اختارت واشنطن إسقاط الأعمدة الأساسية الثلاثة التى تؤلف الدولة السلطوية -من خلال حظر حزب البعث الحاكم، وحل الجيش، وتطهير البيروقراطية من الكوادر ذات الخبرة والذين كانوا أعضاء فى الحزب- دفع ضعف الدولة العراقية بسبب عقوبات التسعينات صدام حسين إلى زيادة اعتماده على الطائفة السنية والولاء القبلى لدعم حكمه المتهالك»، وكأنه بهذا حل مشكلة ضعف حكمه على المدى القصير بمشكلة طائفية كبرى على المدى الطويل، وهكذا «اتجهت الأحزاب الشيعية إلى إيران للحصول على الدعم، فى حين تطلعت الأحزاب السنية إلى المملكة العربية السعودية طلباً للدعم، وبهذا ترسخت الطائفية كميزة الحرب الباردة الجديدة فى الشرق الأوسط»، وفقاً للدراسة، وهو ما ازداد وضوحاً بعد أن أعلن إقليم كردستان رغبته فى الاستقلال عن النظام الحاكم فى بغداد أياً ما كانت صيغته.
«عندما انحدرت سوريا فى نهاية المطاف إلى حرب أهلية خلال الثورات العربية، زادت حدة العنصر الطائفى فى الحرب الباردة الجديدة فى الشرق الأوسط، كانت الاحتجاجات التى ولّدت الأزمة السورية سلمية، وكانت تدعو إلى الإصلاح السياسى على نطاق واسع، فقاد رد الفعل العنيف والمبالغ فيه لنظام بشار الأسد على هذه الاحتجاجات البلاد إلى حرب أهلية، ومع زيادة حدة الصراع وانهيار سلطة الدولة السورية فى أنحاء مختلفة من البلاد، أصبح النظام أكثر اعتماداً على قاعدته الأساسية، والأقلية العلوية والأقليات الأخرى الخائفة من التغيير، فى المقابل، أصبحت المعارضة تتميز على نحو متزايد بالخطابات الطائفية السنية، كما أدت المجموعات المسلحة السنية دوراً متزايداً فى الصراع».
لجوء الحكام فى الدول المشار إليها إلى الهويات والجماعات الطائفية من أجل حماية النخبة الحاكمة خلق طائفية مضادة، وجعل كل طرف يبحث عن حلفاء خارجيين للحصول على الدعم فى الصراع السياسى الداخلى، وما لبث أن تحول إلى صراع عسكرى. ورغماً عن أن «فلسطين لا تمزقها الاختلافات الطائفية، فإنها تشكل نموذجاً آخر عن الدولة الضعيفة (أو بالأحرى شبه الدولة) التى يسهل على اللاعبين الخارجيين التدخل فيها، ومع فوز حماس فى الانتخابات التشريعية سنة 2006 شهدت السلطة الفلسطينية انقساماً فى القوة بين حركتى فتح وحماس»، وطفق كل من الطرفين فى إقامة علاقات تسمح له بتلقى الدعم المادى والمعنوى من أطراف الحرب الباردة العربية، وهنا نجد ملمحاً مثيراً للتأمل؛ حيث تدعم إيران الشيعية جماعة حماس الإخوانية السنية، بما يثبت أن هذه الطائفية وإن كان لها بُعد دينى لكنها أحياناً ما تتجاوز هذه الطائفية.
إن وجود الدولة الوطنية القوية القادرة على حكم مجتمعاتها هى التى تحد من ثلاثة مخاطر: خطر التدخل من القوى الخارجية، وخطر الانفجار من الداخل بسبب صراعات قبلية أو طبقية أو أيديولوجية أو طائفية أو عرقية، وخطر أن تكون فضاء فارغاً للجماعات الإرهابية العابرة للحدود.
معضلة المنطقة أن الدول العربية التى تملك مقومات الدولة الوطنية القوية القادرة على بسط سلطانها على حدودها وإقليمها تتراجع عدداً وتزداد ضعفاً أمام ضربات الطائفية التى تتلقاها داخلياً وخارجياً.
الحوثيون 100 ألف مقاتل لكنهم مدعومون من إيران وستظل إيران تدعمهم حتى تكون جزءاً من الكماشة، حيث إيران تسيطر على أربع عواصم عربية (والمقصود طبعاً بغداد، وصنعاء، ودمشق، وبيروت)، ذراع إيران فى الكماشة الشمالية تبدأ من طهران وصولاً إلى بغداد، ودمشق ثم بيروت، وذراع إيران فى الكماشة الجنوبية تبدأ من طهران وصولاً إلى شرق الخليج العربى (الذى قال عنه وزير الخارجية الأمريكى من يومين الخليج الفارسى)، وصولاً إلى صنعاء وعدن.
الكماشة المضادة لا بد أن تبدأ من القاهرة، وهذا ما يؤكد أهمية وجود تحالف استراتيجى مصرى - سعودى تلتف حوله بقية الدول العربية التى لم تزل صامدة أمام هذا الطوفان لحماية ما تبقى من بنية الدول العربية ولضمان ألا تكون نهاية الدول الأربع حرباً أهلية ممتدة تعيدها إلى القرون الوسطى، وفى هذا خصم شديد من معادلة القوى فى المنطقة العربية.
فى هذه الفترة من تاريخنا، لا وجود للعرب دون مصر، ولا قيامة للعرب دون السعودية، وعليه فلا بد من إدراك متطابق لمصادر التهديد المشتركة بين الدولتين، وتنسيق على أعلى مستوى بين قيادات البلدين، وهذا ما يحدث.
عن الوطن المصرية