القدس العربي
يشكل انفراد طرف حربيّ بالسلاح الجوّيّ والقدرة على الإغارة من السماء شكلاً من أشكال السيادة الكبرى، وهو ما تقدّمه أمثلة عالمية جليّة بينها اعتماد أمريكا على طياراتها بدون طيّار التي تضرب في أنحاء العالم متجاوزة سماوات الدول وحدودها والقانون الدوليّ معاً، وبينها إسرائيل في احتلالها أجواء الشرق الأوسط وانتهاكاتها لسيادات الدول وحدودها وقوانينها، ويقدّمه أيضاً النظام السوريّ في حربه الجوّية المتعددة الوسائط (من غازات وصواريخ إلى براميل متفجرة) على شعبه.
تأتي غارة الطائرة الحوثية على القصر الرئاسي في عدن أمس كإعلان عن مرحلة جديدة في الصراع اليمنيّ، ناقلة الحوثيين من حالة الحركة المعارضة الخائضة حروباً عديدة ضد الدولة المركزية إلى حالة جديدة جديرة بالتحليل.
صحيح أن حركة «أنصار الله» الحوثية ما كان لها أن تنجز الاستيلاء على صنعاء عسكرياً لولا تحالفها مع «الدولة العميقة» التي ظلت تحت سيطرة الرئيس السابق علي عبد الله صالح، ولكنّ هذا الاستيلاء ذو معنى أكبر من التحالف الآنيّ بين طرفين طحنا بعضهما اقتتالاً في الماضي فاتحادهما من جديد كان عملياً هو حلف أشباح الماضي المتضامن للإجهاز على إمكانيات تأسيس مستقبل جديد لليمن مثّلته ثورة 11 شباط/فبراير 2011 ضد استبداد وفساد علي صالح.
في اتحاد علي صالح والحوثيين شكل من أشكال المكر التاريخيّ، فالحركة الحوثيّة هي مرحلة متقدّمة من الصراع العنيف الذي نشب عام 1962 بين الموالين للمملكة المتوكلية والموالين للانقلاب العسكري عليها الذي ورثه علي صالح، والذي كان أيضاً استطالة لصراع إقليمي بين مصر جمال عبد الناصر والمملكة العربية السعودية.
خسوف مرحلة الانقلابات «الجمهورية» الذي بدأ مع هزيمة مصر عام 1967 وتفجّر مع الإطاحة بصدام حسين عام 2003 كانا حدثين فاصلين في المنطقة العربية، وكانت انعكاساتهما كاشفة في اليمن أيضاً.
فما لبث الأمر بإيران أن احتلّت الفراغ الجيوستراتيجي والأيديولوجي الذي تركته مصر والعراق، مستبدلة دعم عبد الناصر وصدام لـ«الثورات» التي يقودها ضباط يرفعون رايات أيديولوجية قوميّة أو وطنيّة طنّانة، بدعمها حركات سياسية تختلط فيها نزعات الانتقام التاريخية (السحيقة والحديثة) مع الشعبوية الطائفية التي ترفع رايات القتال ضد اليهود وأمريكا لكنها لا تقاتل غير خصومها المحليين.
تعود بذلك أشباح التاريخ التي ظنّ الضباط أنها قُبرت، فينتقم «الإمام» (سواء كان اسمه محمد البدر حميد الدين أو كان عبد الملك الحوثي)، لأسلافه الأئمة، ويحوّل مؤسسات «الجمهورية»، بما فيها الجيش والأمن والإعلام، للعمل في خدمة «الأمير ـ الإمام» الجديد.
مفارقة ذات دلالات أن يرتبط يوم أمس اليمني بمحاولات الحوثيين، من خلال الغارة الجوية ومعركة مطار عدن، باستخدام «السماء»، بدلالاتها الأيديولوجية الدينية كما بمعناها العسكريّ، للسيطرة على الأرض.
السؤال الحاليّ هو، إلى أي مدى يمكن للإمام السماويّ أن يُخضع الجنرال الأرضي؟
والسؤال الآخر، في مقبلات الأيام والسنين هو: هل تُفلت إيران خامنئي من مصير جمهورية مصر عبد الناصر؟