خالد التيجاني النور
يقول الكواكبي إنه في بحثه عن المسألة الاجتماعية في الشرق عموماً وفي المسلمين خصوصاً، كشأن سائر الباحثين الذين ذهب كل منهم مذهباً في سبب الانحطاط وفيم هو الدواء، فقد "تمحّص عندي أن أصل هذا الدواء هو الاستبداد السياسي، ودواؤه ودفعه بالشورى الدستورية"، لافتاً إلى أنه استقر على هذا التشخيص بعد بحث دام ثلاثين عاماً "بحثاً أظنه كاد يشمل كل ما يخطر على البال من سبب يتوهم فيه الباحث عن النظرة الأولى أنه ظفر بأصل الداء أو بأهم أصوله، ولكن لا يلبث أن يكشف له التدقيق أنه لم يظفر بشيء، أو أن ذلك فرع لأصل، أو هو نتيجة لا وسيلة".
ويضرب الكواكبي مثلاً "إن قال البعض أصل الداء التهاون في الدين، لا يلبث أن يقف حائراً عندما يسائل نفسه لماذا تهاون الناس في الدين؟، وإن قيل الجهل يجد الاختلاف بين العلماء بصورة أشد وأقوى"، ويظل يدور في حلقة مفرغة حتى يسلم نفسه إلى القول: هذه إرادة الله، "غير مكترث بمنازعة عقله ودينه له بأن الله حكيم عادل رحيم".
ولا يطلق الكواكبي تشخيصه لداء الاستبداد بلا تمحيص دقيق في تعريفه، وبيان أسبابه وأعراضه ومظاهره ونذره ودواؤه، وما هي طبائع الاستبداد، وما هو تأثيره على الدين، وعلى العلم، وعلى الأخلاق، وعلى الترقي، والتربية، على العمران، وكيف يكون التخلص من الاستبداد.
وللكواكبي تعريف لطيف للاستبداد وهو "التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى" لأن السياسة تعني "إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة"، وكيف السبيل للحكمة، وقد اختطف بعض الزعماء مصير بلدانهم وجعلوها رهناً لطموحاتهم الساعية لخلد مستحيل في ملك لا يبلى.
بيد أن من بين أهم من تشخيصات الكواكبي ما يرد به على الذين يثيرون اليوم شبهة أن ثورات التحرر هي سبب الفوضى، وأن الأمن والاستقرار معقود بنواصي الأنظمة الشمولية المتسلطة بقوله "فناء دولة الاستبداد لا يصيب المستبدين وحدهم بل يشمل الدمارُ الأرضَ والناسَ والديارَ، لأن دولة الاستبداد في مراحلها الأخيرة تضرب ضربًا عشوائيًا كثور هائج أو مثل فيل ثائر في مصنع فخار، وتحطم نفسها وأهلها وبلدها قبل أن تستسلم للزوال.
ويضيف في معنى لافت "وكأنما يستحق على الناس أن يدفعوا في النهاية ثمن سكوتهم الطويل على الظلم وقبولهم القهر والذل والاستعباد، وعدم تأمّلهم في الآية الكريمة "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، واعلموا أن الله شديد العقاب". تلك هي الحقيقة أن الصمت على الاستبداد والاكتفاء بالفرجة على طبائعه وأفعاله هي التي تمد من أجله حتى يستفحل الداء، ويصعب علاجه بلا كلفة باهظة.
لقد سكت الناس في العالم العربي طويلاً على الاستبداد وتعايشوا مع أنظمة متسلطة يؤثرون السلامة، ويطمعون في القليل من الأمن الحاضر، ليستثمروا استثماراً خاسراً في فقدان المستقبل لأجيال، لم يبق من دول العالم التي تعيش متصالحة مع الأنظمة الديكتاتورية إلا دولاً محدودة، فقد نهضت دول شرق آسيا وهي تطور لنفسها أنظمة سياسية ملائمة لمجتمعاتها، أطلقت طاقاتها لتنافس في مواقع الريادة الاقتصادية على المستوى العالمي، وتسابقت دول أمريكا اللاتينية مع الزمن وهي تغادر محطة الأنظمة العسكرية الشمولية إلى رحاب التعددية الديمقراطية، وتخلصت شرق أوروبا من ربقة الستار الحديدي، وحتى إفريقيا تشهد العديد من دولها تزايد اندماجها في موجة التحولات الديمقراطية التي تنتظم العالم.
وحدها الدول العربية، إلا من رحم ربي وما أقلها، التي تقدم نموذجاً متفرداً للانتقال نتاج وعي قيادتها، وتشهد تطوراً حثيثاً باتجاه ترسيخ الديمقراطية، يقبع غالب العالم العربي في أتون حالة من التماهي مع واقع يائس لا يجعلها إلا في ذيل المؤشرات العالمية في التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية.
خالد التيجاني النور(كاتب سوداني) ..
/نقلا عن الراية/