سامي غالب
لو أن في اليمن بيئة سياسية مستقرة وديمقراطية لكان أمام الحوثيين خياران؛ إما التفكير بتطوير صيغتهم التي نجمت عن الحرب الأولى، ثم الحروب الخمسة التالية، بالتكيف مع العملية السياسية في اليمن والتحول إلى حزب سياسي طبقا للدستور وقانون الأحزاب، وإما الانكفاء سياسيا والتموضع دينيا باعتبارهم جماعة منصرفة إلى ممارسة نشاطات توعوية وتعليمية وبحثية في إطار "الزيدية".
لكن الرئيس هادي وأطراف المبادرة الخليجية أخذوا اليمن كـ "كيان" والسلطة السياسية غير المستقرة والنظام الانتخابي ومشكلة صَعدة والقضية الجنوبية، إلى طاولة الحوار في موفنبيك قبل عامين. وقد تسبب ذلك التكديس للقضايا في مكان واحد وفي "زمن" انتقالي، في هذه الفوضى العارمة التي يعيشها اليمنيون اليوم.
لأسباب متصلة بالجوهر الديني لجماعة الحوثيين والمحدِدَين الجغرافي والعنفي للجماعة، فإن عبدالملك الحوثي يجد نفسه مضطرا إلى "التحالف مع الشيطان" في ظرف تفكيكي للدولة وتفتيتي للمجتمع وتقاسمي للسلطة.
صار الحوثيون، الذين كانوا يتحرجون من تقديم أنفسهم كجماعة طائفية، أكثر جرأة في السنوات الأخيرة. وفي الموازاة للثورة الشعبية السلمية في فبراير/ شباط 2011، حقق الحوثيون "انتقالة سلسة" من "جماعة الشعار" التي صارت إعلاميا منسوبة إلى مؤسسها الراحل حسين بدر الدين الحوثي، إلى جماعة "أنصار الله" التي يقودها شقيقه عبدالملك الحوثي.
في اليمن ثلاثة مذاهب دينية، أو فرقتان ومذهب؛ الإسماعيلية والزيدية والشافعية. وفي تقديرات الأوزان من حيث السكان والجغرافيا (فالتعداد السكاني لا يحتوي على بند يتعلق بالمعتقد أو المذهب الديني) فإن أغلبية كبيرة من السكان من أتباع المذهب الشافعي ويحل ثانيا (ولكن بمسافة) أتباع المذهب الزيدي (نحو ربع السكان)، وأخيرا الإسماعيليون الذين يتمركزون في مناطق في غربي الهضبة وبعض الجيوب الحضرية في اليمن، ويُقدر عددهم باقل من خمسة في المئة من السكان. وهناك حضور لمذاهب وفرق دينية أخرى لكن الكثير من العوامل أدت إلى انكماش اتباع هذه المذاهب والفرق، طلباً للسلامة وتفادياً للمشاكل.
هناك ما يمكن وصفه بـ"تقاطع" مثير للدهشة، وللقلق أيضا، بين المذهب والجغرافيا، وبالتالي القبيلة. صحيح أن هناك تشابكاً يبلغ أحياناً حد التعقيد، بين اليمنيين في المدن الكبرى، وخصوصا صنعاء، لكن الزيدية ارتبطت خارج معاقلها في اليمن، باليمن الأعلى، أو "مطلع" أو "الشمال الزيدي". تاريخياً، كان الزيدي في عيون اليمني العادي في اليمن الأسفل والجنوب عموما هو العكفي (العسكري النظامي أو البرّاني) الذي يمثل الذراع الباطشة للإمام. وهكذا فإن بعض التظاهرات التي تخرج في "منزل" أو الجنوب عموما، تنادي، أحيانا، بطرد "الزيود"، بما هم جهة متغلبة على جهات اليمن الأخرى وليس في كونهم يمنيين يعتنقون المذهب الزيدي.
نظراً للتشوهات في النسيج الوطني، والإخفاقات في مسيرة ثورة 26 سبتمبر 1962 في اليمن الشمالي الذي صار "الجمهورية العربية اليمنية"، فإن التطابق بين الزيدية الدينية والزيدية الجغرافية أخذ يفقد "واحديته" أو انسجامه. وانطلاقاً من نهاية الستينات ثم خصوصاً من نهاية السبعينات، كرست السياسة والانقلابات ثم الدورُ الإقليمي المتنامي بمحمولاته الدينية، حالة التمايز أو ما يبدو أحيانا أنه افتراق بين "الزيديتين" في اليمن؛ صار في اليمن من في وسعه القول بأن هناك زيدية جغرافية وأخرى عقائدية أو دينية.
هذا التمايز أو الافتراق يتسبب بصداع مزمن للباحثين الأجانب، إذ كيف يكون الرئيس السابق علي عبدالله صالح والشيخ عبدالله بن حسين الأحمر زيديين في نظر سكان اليمن الأسفل وقبائل المشرق، ثم الجنوب عموما، بينما هما عدوان للزيدية في نظر الحوثيين!
الافتراق بين الزيديتين لم يأخذ الطابع العنفي إلا عام 2004 عندما أدت ملابسات في العلاقة بين الرئيس السابق علي عبدالله صالح وقائد جماعة الشعار إلى أزمة تفاقمت في وقت قياسي لتأخذ منحى قتالياً عندما قرر الرئيس صالح التخلص من حليف (افتراضي أو "مستقبلي" للمواجهة المتوقعة مع الإخوان المسلمين) بالقوة المسلحة.
وتضافرت عوامل سياسية ودينية وإقليمية وشخصية ( إذ تتردد أقاويل عن إهانات متبادلة بين الرجلين) ضداً على حسين بدر الدين الحوثي الذي كان في سلوكه كسياسي ورجل دين أقرب ما يكون إلى نمط القيادات المثالية. ودفع الرجل حياته ثمنا لما يعتنقه من مبادئ وأفكار.
حوثيون
في 2011 اندلعت ثورة اليمنيين، زيديين وشوافع واسماعليين، ضد الرئيس صالح ونظام حكمه. كانت ثورة اليمنيين الأفراد ثورةَ "المواطنيين" ضد "التمييزيين" من أصحاب الامتيازات وجماعات المصالح والنفوذ. بمعنى أنها قامت ضد "الزيدية الجغرافية" ممثلة بعلي عبد الله صالح وعلي محسن وكبار المراكز القبلية في الشمال، واستقطبت في أيامها الأولى "الزيدية العقائدية" وكل اليمنيين المتطلعين إلى دولة مواطنة في الشمال الزيدي. لكنها في نهاية الأمر، وبسبب مسار سياسي انتقالي كارثي، أوحت بأن الشطر الأكثر "سنية" في السلطة المتكئة على الجغرافيا الزيدية خرج منتصراً بشكل حاسم، ما أدى إلى استنفار "الزيدية العقائدية" حركياً فور تشكيل الهيئات الانتقالية في نهاية العام نفسه (خريف 2011). (يمكن قراءة الوثيقة الفكرية للزيدية التي تم التوقيع عليها في مطلع 2012 في هذا السياق).
اختزال الثورة
لم تقرأ الأحزاب السياسية جيدا ما حصل في 2011، وتقاصرت عن إدراك عمق التحولات في اليمن، والانقلاب في الأوزان والأدوار جراء ثورة المواطنين التي بلغت أوجها في مارس/ آذار 2011. في نظر قيادات الأحزاب والرئيس هادي ظل الكبير كبيراً والصغير صغيراً، فتقاعسوا وتلكأوا وراوحوا ثم انطلاقاً من تقدير خاطئ وانتهازي بأن أمام اليمنيين فرصة تاريخية للإفلات مما يسمونه "المركز المقدس"، أخذوا اليمن، بأسلوب اعتباطي وبدائي، إلى منحدر "الفيدرالية".
في الأعوام الـثلاثة الماضية استثمر الحوثيون (بما أنهم الزيدية العقائدية أو الدينية) الإحباط الشديد لدى اليمنيين جراء اختزال ثورتهم في مجرد إزاحة رئيس، وأخذ سلطتهم إلى التقاسم، وأخذ بلدهم إلى التقسيم. واستطاع الحوثيون إعادة تحشيد "الزيدية الجغرافية" باسم العقيدة ونصرة الله ومنع التمزيق.
كان ذلك متوقعا في سياق العملية الانتقالية وما رافقها من خطاب ديماغوجي شعبوي يصوِّر الصراع على أنه بين "جهات" لا بين ظالمين ومظلومين في عموم اليمن. ومن تجليات هذا الخطاب العصبوي أن سكان الرقعة الجغرافية الزيدية - وهذا التوصيف نسبي - صاروا جزءاً من المشكلة في النقاش العام الذي اتسم بالقطعيات والاختزال وتملق مشاعر البسطاء، توطئة لتقسيم سياسي للكيان الوطني لا يقوم على أي سند من الواقع.
كان الحوثيون المتضررون من تنامي حضور "الأخر الجوّاني" في السلطة والمجتمع (الإصلاح وحلفائه)، يتحركون بحرية في الشمال مستفيدين من القيود المفروضة على "الآخر الجوّاني" لخصمهم الذي في الحكم (والآخر الجواني للإصلاح ليس سوى الرئيس السابق صالح وحزب المؤتمر الشعبي). هكذا تعمق تحالف بين "أنصار الله" والرئيس السابق صالح ضداً على "أنصار الثورة" ممثلين بالتجمع اليمني للإصلاح واللواء علي محسن الأحمر والشيخ حميد الأحمر وأخوته. بعبارة أخرى، تحالفت "الزيدية الدينية" مع شطر من "الزيدية الجغرافية" ضدا على الشطر الذي استمر في الحكم من "الزيدية الجغرافية".
في سبتمبر أيلول 2014 تقدم الحوثيون إلى العاصمة ثم انطلقوا إلى محافظات أخرى في الوسط والغرب والشرق. كانوا في حقيقة الأمر يُعيدون الأمور إلى نصابها، أي توحيد "الزيديتين"، الجغرافية والدينية، في أعين اليمنيين الآخرين.
لكن الحوثية ليست مجرد مذهب. هي جماعة لها تصوراتها الثورية الرومانسية. ومن هنا يمكن تفسير النقمة التي تتلبس أي "حوثي" جراء صورته السلبية في عيون "الآخر الجوّاني"، الآخر الجواني الذي صار كل من هو ليس حوثيا. يرى الحوثي نفسه منقذا حرر اليمنيين من مراكز القوى والنفوذ وأطاح بمنظومة حكم فاسدة ويحمل في جوانحه أفكارا ثورية نبيلة ستغير وجه اليمن، بينما يراه اليمني الآخر صورة أكثر جهامة وقسوة وأشد ظلامية لـ"الزيدي" الذي كان يتسلط عليه طيلة العقود الثلاثة الماضية.
إن أكثر ما تستحضره ذاكرة اليمني المعاصر خلال الأشهر القليلة الماضية، هو حروب الماضي البعيد والقريب. حروب اجتياح قبائل الشمال للجنوب عموما. يستحضرون "الفتوحات الإمامية" والغزوات المتعاقبة التي هبطت من ذرى الهضبة إلى السهول والسواحل عبر الألف السنة الماضية وحتى حرب صيف 1994، متلبسة بالدين متوسلة السيطرة والاستحواذ على السلطة والثروة.
يؤدي الجموح العسكري للحوثيين إلى تأجيج المشاعر الدينية الطائفية في اليمن. وهم فعليا يهيئون لتنظيم "القاعدة" البيئة المثلى للنشاط في اليمن. يجب أن نقول بوضوح إن الإنجاز الأعظم للحوثي وحلفائه في المدى القصير سيتمثل في إسهامه في تحويل "انصار الشريعة" في اليمن (فرع تنظيم القاعدة) من جماعة منبوذة إلى "داعش"؛ إلى تنظيم دولة إسلامية يمني.
يضاف على الاجتثاث للآخر العقائدي، السلفيين أساسا، إعمال العنف والقوة في مواجهة حزب التجمع اليمني للإصلاح (فرع الإخوان المسلمين في اليمن) ثم التهديد الصريح بحظره. هذا الإعمال الأخرق للعنف والقوة، يدفع القاعدة الشعبية العريضة لهذا الحزب نحو التموضع طائفيا كـ "أهل السنة" وحربيا كـ "مجاهدين" أو أنصار شريعة!
ينسى الحوثيون وحلفاؤهم أن هناك تياراً كبيراً من "السلفية" في اليمن ينتشر في كل مناطق اليمن الكبير. وهؤلاء يلتزمون، في أغلبيتهم الساحقة، النهج السلمي في نشاطهم. لكن سلوك الحوثيين العنفي (الاستكباري، بلغة الحوثي نفسه) سيحفز الاتجاه العنفي عند هؤلاء فيلتحقون بالسلفية الجهادية ممثلة بـ "أنصار الشريعة" أو أي تطور تنظيمي مشابه آخر في اليمن!
أغلبية الزيديين ليسوا "حوثيين" بل يمنيون محرومون، يريدون السلام وينشدون حياة كريمة ويرفضون العنف والتشدد الديني، ويتطلعون إلى دولة مواطنين تصون كرامة أي يمني، وأغلبية الشوافع لن يصيروا "سلفيين". لكن احتكارات التمثيل وشيوع العنف قد يمكِن جماعة مسلحة في الجنوب وبلاد المشرق و"اليمن الأسفل" من تقديم نفسها للسكان كـ "نظير" لجماعة "انصار الله".
اليمنيون العاديون ليسوا طائفيين ولا مناطقيين. الأغلبية الساحقة منهم مستقلون، غير منتظمين في أحزاب أو جماعات. لكن هذا زمن احتكارات التمثيل. والحروب الأهلية تنجم غالبا عن مقامرات ومشاريع محتكري التمثيل. وفي اللحظة الراهنة هناك من يحتكر تمثيل الزيدية، ومن يسعى إلى احتكار تمثيل السنة، ومن يتوهم إنه يحتكر تمثيل الجنوب... وهكذا. إنها الحرب!.
* نقلا عن موقع BBC