د . يوسف مكي
أحداث كبيرة جرت مؤخراً في اليمن، نتجت عنها سيطرة الحوثيين "أنصار الله"، على أجزاء واسعة من أرض اليمن، توجت بتقديم الرئيس عبد ربه منصور هادي استقالته لمجلس النواب، ووضعه تحت الإقامة الجبرية من قبل المتمردين، وتمكنه لاحقاً من الفرار إلى عدن، التي أعلنت عاصمة مؤقتة للحكومة اليمنية . وقد اعتبرت مدينة صنعاء عاصمة محتلة .
تبع هذه التطورات اتخاذ مواقف دولية متباينة من الأحداث، لكنها في جلها تعتبر الحوار السياسي هو المدخل الرئيسي لحل الأزمة الراهنة . لكن ذلك لم يمنع عدداً كبيراً من الدول من استنكار هيمنة "أنصار الله"، على الأوضاع في عدد من المحافظات، واستيلائها على العاصمة، وترحيبها بقرار الرئيس هادي اعتبار عدن عاصمة مؤقتة للجمهورية العربية اليمنية، والتزامها بنقل سفاراتها للعاصمة الجديدة .
هذه التطورات نتيجة لاتساعها، وسرعة حركتها، تبدو مفاجئة لغير المتابعين للمشهد السياسي اليمني وللاستراتيجيات الإقليمية، ذات العلاقة بهذه البلاد، في العقدين الأخيرين، وبشكل خاص في السنوات التي أعقبت ما أصبح يعرف بالربيع العربي .
ولعل نقطة البداية في هذه القراءة هي التأكيد على أن معضلة اليمن، في تاريخه المعاصر، كما كانت في مراحل سابقة، هي في بنيته القبلية، ما قبل التاريخية . وقد ظلت هذه البنية قوية وراسخة، حتى بعد إعلان الجمهورية وسقوط نظام الإمامة، وكانت ولا تزال حجر عثرة، تعيق تحول البلاد إلى دولة عصرية قادرة على الالتحاق بركب الحضارة الإنسانية .
وحتى بعد أن تأسست الحركة السياسية الحديثة، في اليمن السعيد، فإن الأحزاب التي رفعت شعارات يسارية وقومية ووطنية لم تتمكن من التخلص من تركة التشكيل القبلي . فكانت النتيجة أن شهدنا انفصاماً عميقاً بين مبادئ وشعارات هذه الحركات، وبين بنياتها الاجتماعية وممارساتها السياسية، ليس في شطر معين من أرض اليمن، بل شمل ذلك شماله وجنوبه .
لم يكن في اليمن صراع طائفي، بالمعنى المعروف لصراع الطوائف . فرغم شيوع مذهبي الزيدية والشافعية في أرض اليمن، لكن ذلك لم يكن سبباً في إيجاد خلاف مذهبي، ويرجع ذلك إلى أن المذهبين متقاربان في رؤيتهما لمفهوم الخلافة، وفي تسامحهما في كثير من المسائل التفصيلية . وليس هنا مجال تفصيل ذلك . فتاريخ اليمن هو أكبر دليل على صحة قراءتنا هذه .
كانت الغلبة دائماً للبنيات القبلية، وليس للمسألة الطائفية . فالصراعات في اليمن الديمقراطي السابق، على السلطة كانت تتلفع بشعارات اليسار، لكنها في أعماقها تتحلق حول انتماءات قبلية . والذين كانوا يتقاتلون هم من أتباع مذهب واحد . وقد سقط في معركة واحدة بينهم في بداية الثمانينات أكثر من عشرين ألف قتيل . وانتهت بانتصار فريق على آخر، وليستمر وميض النار، مختبئاً تحت الرماد .
وإذا ما انتقلنا من البنية القبلية إلى التكالب الإقليمي على المنطقة، فإن أول ما نلاحظه هو وقوف الشطر الشمالي اليمني، ضد محاولات طهران الوصول إلى مضيق باب المندب . بل نسجل في هذا السياق وقوف الرئيس صالح مع العراق أثناء الحرب العراقية الإيرانية . وكان بديل إيران لاختراق اليمن جبهتين: جبهة الحراك الجنوبي المطالب بالاستقلال عن اليمن، وجبهة الحوثيين في صعدة .
وليس بالمستطاع القول، إن الحروب الست التي خاضها صالح ضد الحوثيين هي نتاج صراع طائفي، فالذين قاتلوا ضد تمرد صعدة، عملوا لفرض سيطرة الدولة على اليمن، وكان كثير من قادة الدولة، هم من أتباع ذات المذهب الذي يواجهونهم في منطقة صعدة .
لقد بقيت معظم أقطار الوطن العربي، وضمنها دول مجلس التعاون الخليجي مع وحدة اليمن، منذ بدأ الحراك الجنوبي وحتى يومنا هذا . في حين عملت إيران على إيجاد جيوب انفصالية لها في صعدة والجنوب . وقد مكن انشغال اليمن بالحرب على القاعدة، والفوضى التي سادته بعد الربيع العربي، وعجز النظام العربي الرسمي، عن تقديم أي مساندة حقيقية للدولة اليمنية، القوى الإقليمية والدولية من توسيع دائرة تحركها، بما يسهم في مضاعفة الفوضى وانفلات الأمن .
حدث "الربيع العربي" في اليمن، وحالت قوة بنيانه القبلي دون تمكن أي من الفرقاء الموالين أو المعارضين لسياسات صالح من حسم الموقف لصالحهم . وبسبب تأثير ما يجري باليمن من تداعيات في دول الجوار، قدمت المملكة العربية السعودية مبادرة مصالحة، بين اليمنيين، ضمنت رحيل صالح، وبدء مرحلة انتقالية، بحوار وطني ينتهي بإعلان دستور جديد للبلاد، وبرلمان ورئيس منتخب، وحكومة يعينها البرلمان . وتسلم نائب الرئيس عبد ربه هادي السلطة بعد استقالة صالح . لكن الأمور لم يكتب لها أن تستقر طويلاً .
فالذين وقفوا ضد علي صالح، سواء من مؤسسة الجيش أو من الأحزاب السياسية، كحزب الإصلاح والناصري، ساندوا الرئيس الجديد ومضوا قدماً في الحوار الوطني . ورأى الرئيس السابق، أن ينتقم من النظام الجديد، بالتحالف مع المتمردين الحوثيين، وأن يسخّر ما يمتلك من قوى مساندة له في القوات المسلحة اليمنية لخدمة هذا الهدف .
الحراك الجنوبي وحده بقي يراقب الصراعات التي تجري على السلطة في شمال البلاد، وبالقدر الذي تقترب فيه إيران من الحوثيين وحليفهم الجديد صالح، تتباعد المسافات مع الجنوب . فالهدف الإيراني، ظل دائماً هو الاقتراب من باب المندب، وما دام ذلك قد تحقق لهم، من خلال الحوثيين وصالح، بالسيطرة على الشطر الشمالي، فليست هناك حاجة للجنوبيين للاقتراب من المضيق بل ربما يشكلون عبئاً على حركة طهران .
والجنوبيون من جانبهم، بعد أن تحولت عدن إلى عاصمة مؤقتة للجمهورية اليمنية، لم يعودوا بحاجة لدعم طهران من أجل تحقيق هدف الاستقلال . فالانفصال أصبح أمراً واقعاً ومتحققاً، ويحظى هذه المرة بمباركة دولية وإقليمية وعربية، ولكن تحت يافطة وحدة اليمن . ودون تحقيق هذه الوحدة حروب أهلية، ليس بمقدور أحد التنبؤ الآن بنتائجها . واليمن السعيد في انتظار الكثير من المفاجآت، وليس أقلها احتمالي الهيمنة الإقليمية أو التفتيت .
[email protected]
/نقلا عن الخليج/