محمد قواص
أن ينتقلَ الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي من منزله المحاصر في صنعاء إلى مدينة عدن مسقط رأسه، فذلك حدثٌ بحدِّ ذاته يستدرجُ تفسيرا لتحوّلات قد تغيّر من مصير اليمن. وأن يكونَ أمرُ عملية الفرار من قبضة الحوثيين من إنتاج وتنفيذ داخلي (بغضّ طرف حوثي كما يُشاع) أو بتواطؤ ومساعدة أجهزة خارجية، فذلك أيضا مفتاحٌ لقراءة واستشراف المـزاج اللايمني من الحال اليمني. والأيام المقبلة كفيلة بفك ألغاز الحدث وتبيان محليّته من روحية تُستلهم مما وراء الحدود.
يفرُّ الرئيس هادي من الأمر الواقع في صنعاء، وكان قد فعلها قبل ذلك حين فر عام 1986 من الأمر الواقع في عدن إثر أحداث ذلك العام. يسحبُ الرئيس اليمني البساط نهائيا من تحت أرجل عبدالملك الحوثي وجماعته. فإذا ما تمكّن “أنصار الله” من غزو العاصمة والانقلاب على الحكم فيها، فذلك لا يعدو عن كونه عملية عسكرية قامت بها ميليشيا متمردة، لا تغيّر من مصير النظام السياسي اليمني، ولا من طبيعة اليمن في الخارطة السياسية الدولية المعتمدة.
تأتي خطوة هادي مكمّلة لموقف العواصم الكبرى بهجر العاصمة اليمنية المحتلة، كما لموقف مجلس الأمن الرافض لإعلان الحوثيين “الدستوري” وما يلتصق به من قرارات نافرة، كما لموقف مجلس التعاون الخليجي المستنكر للانقلاب والداعم للشرعية في اليمن.
بانتقال هادي إلى عدن تتحولُ المدينة، ولو بشكل غير رسمي، إلى عاصمة لكل اليمن. يبدو المزاجُ الجنوبي الآن الأكثر تعصّبا لفكرة اليمن الواحد المتعدد المعتدل، فيما كان يروجُ فيها ما ينذرُ بانشقاق وانفصال. يُطل هادي من عدن رئيسا شرعيا بعد استقالة تحت النار (لم يقبلها البرلمان)، بما يشكّل سابقة من حيث عزم الجنوبي على الدفاع عن شمال لطالما مارس ضده جبر الوحدة وفرض شروطها.
ثم أنه بعودة ظهور الرئيس، وتوجهه إلى اليمنيين كرئيس، إعادة تصويب التوقيت اليمني وفق عملية سياسية بعد أن عبث الحوثيون بعقاربها. وفي ممارسة مهامه “التحريرية” ضد المحتل من عدن، إعادة اعتبار للجنوبيين في تحديد شكل ومستقبل وهوية البلد، وهو أمر لطالما أغفلته سلطة الوحدة في صنعاء، وغضّت الطرف عن تجاوزات سلطوية عززت الشعور بالغبن وروّجت لفكرة التميّز، وبالتالي الانفصال.
تنعشُ استفاقة الشرعية في اليمن آمال اليمنيين بتجنيب بلدهم خطر الحرب الأهلية. المراقبون للشأن اليمني، كما القيّمون الدوليون على شؤونه، باتوا يتحدثون جهارا عن حرب أهلية على الأبواب. وإذا ما عرف البلد في تاريخه الحديث احترابا داخليا، سواء لانتزاع الجمهورية من حكم الإمامة (1962)، مرورا بحرب الوحدة مع الجنوب (1994)، انتهاء بالحروب الست التي خاضها نظام علي عبدالله صالح مع الحوثيين في صعدة (منذ 2004)، فإن تلك الوقائع لم تشهد مذهبية أو طائفية كتلك التي بدأت تتقدمُ داخل المشهد اليمني الحديث. يكفي متابعة تحرك القبائل، وتأمّل خرائط المواجهات، وتفقّد المزاج اليمني عبر شبكات التواصل الاجتماعي، لاستنتاج جهوزية المحدد الطائفي في تحفيز وتحشيد فرقاء الصدام العتيد.
في حساب الأرباح الميدانية وخسائرها يسيطرُ الحوثيون على خُمس مساحة اليمن، أي ست محافظات من إجمالي عشرون محافظة تمثّل ربع سكان اليمن. يبدو ذلك المنجز، على أهميته، عرضيا ركيكا، يمثل أقصى ما يمكن تحقيقه. تجري حركة الحوثيين داخل بيئات غير حاضنة، تجاهر يوميا بالاعتراض والصدام مع “المحتل”، ما يؤشّر إلى أن الرقعة التي تمددَ الحوثيون عليها أكبر من أن تحتملها الحوثية وتركيبتها وأصل نشأتها، ناهيك عن أن شروط السلطة ستؤدي حكما إلى تصدعات داخل الجسم الحوثي نفسه (رفض محمد علي الحوثي قرار إقالته من رئاسة ما يدعى بـ“اللجنة الثورية العليا” مثالا).
في سلوك الحوثيين ما يشي بفشل الجماعة في التأسيس لبديل سياسي مقنع لليمنيين قبل دول الجوار (إلى درجة العجز عن إقناع الحكومة المستقيلة بتصريف الأعمال). تصرفت جماعة “أنصار الله” بصفتها ميليشيا تمارس غزوات انفعالية لا تجيد استثمارها ولا تحويلها إلى منجز سياسي ناضج. مثّلت مغريات “النصر” استدراجا نحو مستنقع متوقع لا يغيب عن ذهن أي يمني أو مختص بشؤون اليمن. تكفي قراءة تاريخ البلد في حرفة التعايش الفسيفسائي الداخلي، أو في تعامل اليمنيين مع غزاة الخارج، لاستنتاج استحالة استتباب أمر البلد لجماعة تستورد بضاعة مصدرها الوليّ الفقيه في طهران لتسويقها داخل السوق اليمني بحساسياته وقبائله وطوائفه وجهاته ووجهائه ومراكز قواه (كان لافتا اتهام جون كيري لإيران بأنها وراء إسقاط الحكم في اليمن من حيث كونه أول اتهام أميركي لإيران في الملف اليمني).
قد تكون واشنطن قد أنِست يوما للحدث الحوثي بصفته ندّا مناسبا للقاعدة والقاعديين. تعاونت الولايات المتحدة مع نظام علي عبدالله صالح لضرب مراكز التنظيم في البلد. كان الحضور الأميركي الدبلوماسي والأمني علنيا ظاهرا للعيان في صنعاء وميادين أخرى. وكان السفيرُ الأميركي أساسيا في متابعة ورعاية الاتفاق السياسي الذي أخرجته دول الخليج بقيادة الرياض للسير بـ“حل يمني” ينظّم تسليم السلطة وإطلاق عملية سياسية وحوار. بيْدَ أن قُصر نظر واشنطن، أو ربما تلعثم وارتباك، على ما هو جار في مواقع انفجار أخرى بالمنطقة، حوّل الراعي الأميركي إلى متأمل سلبي للفوضى، بما يعكسُ كفرا أميركيا بالمركز اليمني، وقبولا بأي قدر أفضل، ربما رآه في الحوثيين المترجّلين من الشمال.
تلملمُ واشنطن حوائجها الدبلوماسية الأمنية وتمضي. تخلي سفيرها وسفارتها ودبلوماسييها، فتلتحق بها العواصم واحدة تلو أخرى. بدا أن اليمنيين باتوا مكشوفين متروكين لمصيرهم، إلا من وصلٍ أممي يمثّله جمال بنعمر (ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في اليمن). وبدا أن على اليمنيين الاتكال على أنفسهم، كما فعلوا قبل ذلك في مراحل تاريخية سابقة، لتثبيت خيار يقبل به العالم، أو يهرول لدعمه. وإذا ما كان من المبكّر اكتشاف الجديد الذي يحمله حدث مغادرة الرئيس لصنعاء وظهوره في عدن لجهة أدوات استعادة الدولة، فإن اختلالا كبيرا في موازين القوى قد حدث (على ما لمّحت وزيرة الإعلام في الحكومة المستقيلة نادية السقاف)، وهو ما قد ينسفُ التوافقات حول “مجلس شعب انتقالي” وغير ذلك مما أعلنه الموفد الأممي بنعمر، وأن ذلك الاختلال سيكبرُ في الداخل، كما في الخارج، وفق تبدّلات إقليمية دولية قد لا تحتملُ التساهل مع الاستثناء الحوثي، ولا تقبل تداعياته الميدانية والقانونية.
وفي تبدّل المواقف ما يُرصد للرئيس السابق علي عبدالله صالح، المتهم بعقد شراكة ضمنية مع الحوثيين، والذي يراه المراقبون الرجل الذي يحتاجه الحوثيون هذه الأيام. أدلى الرجل بدلوه، تداول في أمر اليمن مع السفير الروسي، ودعا في مؤشر على ابتعاده عن الحوثيين، إلى إنهاء “المرحلة الانتقالية” والالتزام بالمبادرة الخليجية، متجاهلا اتفاق “السلم والشراكة” الذي عقدته صنعاء مع الحوثيين. جاء موقف صالح معطوفا على نفي الكتلة البرلمانية للمؤتمر الشعبي العام (حزب صالح) صحة دعوتهم إلى البرلمان لعقد جلسة للبت في استقالة الرئيس عبدربه منصور هادي (قبل ذلك نُقل عن عبده الجندي، المتحدث باسم الحزب، دعوته للرئيس المستقيل إلى “احترام استقالته وألا يعود إلى السلطة إلا بقرار من نواب الشعب”).
يعيدُ الحدث الحياة إلى التناقض التاريخي بين صنعاء وعدن. ولئن يحملُ الصراع الحالي مضامين مغايرة لتلك الكلاسيكية في تناحر المدينتين، بيْدَ أن غيابَ التوافقات ينذرُ بأزمة طويلة الأمد، أقلها وقوع البلد في واقع تقسيمي وفق سلطتين وسلطانين، وأخطرها انزلاق التأزم نحو صدام دموي بين شمال وجنوب.
ينقلبُ عبدربه منصور هادي على انقلاب الحوثيين المعلن عبر ما أسمي بـ“الإعلان الدستوري” الذي أصدروه في السادس من هذا الشهر. يتمسكُ هادي بالحوار، لكنه يريده في عدن خارج سطوة الحوثيين. يعيد هادي الاعتبار للمبادرة الخليجية وثمارها مرجعا للحل (على ما أعلمنا بنعمر). يستأنفُ هادي وصل المنطق اليمني بالمنطق الدولي العام.
قبل ذلك، أطل المشهد العربي (الخليجي أساسا) الدولي ممهدا، وربما راعيا، للانقلاب على الانقلاب، بما قد يفسّر يوما غموض الليلة التي خرج فيها الرئيس من صنعاء.
في محدودية هامش مناورتهم، وفي تواضع قدراتهم السياسية، أمام الحوثيين خياران. الأول التراجع الحذق وقراءة التحوّل والتأقلم مع المستجد، وهذا أمر يحتاج إلى مباركة من طهران. والثاني هو سلوك ما سلكوه سابقا من استئصال للخصم والسيْر نحو عدن، وهذا أمر يحتاج إلى ضوء أخضر من طهران. ربما في تأمل النهج الحوثي المقبل استطلاع لمزاج إيران في مقاربة ملفاتها وفق المداولات المعلنة والخفية بينها وبين واشنطن.
صحافي وكاتب سياسي لبناني
/نقلا عن صحيفة العرب/