الأرشيف

هكذا جلب الرئيس هادي الحوثيين إلى بيته..

الأرشيف
الخميس ، ٢٩ يناير ٢٠١٥ الساعة ٠٥:٥٦ مساءً

مروان الغفوري


في مركز دماج، الشهير، جلس السلفيون منذ حوالي ثلث قرن، ودرسوا الحديث. كان المركز أشبه بجزيرة نائية في محيط. وكانت لهم إذاعة محلية خاصة "إذاعة مفرق حبيش". والمفرق باللهجة اليمنية يعني نقطة تقاطع طرق. تقول المدونة الرئيسة لموقعهم على الإنترنت إنهم البقعة المضيئة في هذا العالم. بدوا، ساعة الخروج، شبيهين بمشهد السكان في فيلم "قرية" الشهير، حيثُ لم يكن السكان يعتقدون بوجود عالم خارجي، بل بغابات من الأشباح وحسب.

كانت حظوظهم السيئة أنهم وقعوا في طريق الحوثي. أزاح الحوثي كل من يقف في طريقه. شن على السلفيين حرباً استمرت أكثر من مائة يوم، فتحوّل طلبة الحديث إلى مقاتلين. ولا يوجد ما يثير العجب في هذا التحوّل.

بعد حصار خانق أجلي سكان المنطقة ومعهم السلفيون، وكان مشهداً مروّعاً، وصادماً. قال أحد قيادات السلفية الذين خاضوا عملية تفاوضية قبل الجلاء إن ممثل الرئيس هادي كان يعمد إلى تهديدهم بالقول إن أميركا ستقصفهم بالطيران إذا لم ينزحوا. ولم يكن ممثلو الحوثي يسمعون كلاماً مشابهاً.

خلق الحوثيون أعداءهم على الأوراق كما لو كانوا يلعبون النرد. ثم عمدوا إلى التركيز على خصم واحد مقدّمين خطاباً متصالحاً مع الآخرين. علينا أن نتذكّر أن النخب السياسية اليمنية هي جرحى الحرب الباردة، بالتعبير العملي لا المجازي. هادي شخصياً أحد الفارين من المجازر الماركسية في عدن 1986. وعندما حاصر الحوثيون عمران كان المجال السياسي في صنعاء كالتالي:

الإسلاميون تحت قيادة ضابط مخابرات من زمن الحرب الباردة، الماركسيون تحت إدارة مثقف كان أحد قادة الحزب في حقبة الحرب الباردة، الناصريّون تحت قيادة تاجر صغير نشط لأكثر من ربع قرن في الأقبية السرّية، في الحقبة الباردة. وكان حزب صالح يتقدّمه كل رجال السبعينات والثمانيات، الأزمنة الباردة.

هذا الموزاييك الشبيه بمتاحف "آلات التعذيب" مثّل وسطاً رخواً استطاع الحوثي أن يفكّكه عبر خطاب قروي بسيط يمتدح حزباً ويهجو آخر. وبدا الخطاب الساذج لرجل قادم من الجبال قادراً على إشعال الحرائق بين حلفاء اللقاء المشترك، النخبة السياسية المعارضة منذ أكثر من عقد من الزمن.

اقترب الحوثيون من الرئيس هادي واستحوذوا على وزير دفاعه. هذا الأخير اختار ضابطاً منهم وجعله مديراً لمكتبه، وأمين سرّه. وبحسب رواية ضابط كبير مقرّب من الجنرال علي محسن الأحمر فقد كانت تحركات الحوثيين إلى صنعاء تتحاشى كل الخطط العسكرية التي أعدها "جزء من الجيش" للدفاع عن العاصمة. كما لو أن لديهم مسوّدة بالتفاصيل.

حصار عمران كان شبيهاً بحصار مدينة طروادة، كما في الإلياذة. وبالنسبة لدارسي التاريخ اليمني خلال الألف عام الفائتة كانت صنعاء تسقط في يد الملكيين تالياً لسقوط عمران. وكانت عمران تسقط تحت ذريعة الخلاص من الارتهان للأجنبي، ونجدة الجائعين. العامان 1904، 1905، كانا آخر بروفا للعملية التاريخية تلك.

بينما كان الحوثيون يحاصرون عمران كتب إعلامي حوثي مرموق "بعد سقوط عمران ستسقط صنعاء بفارق النقاط". ومع اشتداد الخناق على عمران غابت السعودية كلّياً على المشهد. كانت قد غابت قبل ذلك بأشهر عندما هاجم الحوثيون قبائل آل الأحمر. وبحسب التدوينة التي نشرها القائد الميداني لآل الأحمر "كنّا نواجه السلاح الإيراني والمال السعودي". ولم يحدث قبلاً أن اتهم الأحمريّون السعودية بالتآمر ضدهم. ومنذ سقوط عمران انقطعت كل عُرى العائلة مع المملكة، وكانوا خيولها على مرّ الأزمان.

كان هادي خلف كل ذلك. وعلى الدوام كان يبلغ الأميركان والخليجيين بطبيعة المعارك من وجهة نظرِه "اشتباكات بين الإصلاحيين والحوثيين". والإصلاحيون هم الحزب الإسلامي السياسي في اليمن. قاد هوس المملكة بالحرب ضد الإسلام السياسي إلى إفساح المجال للإسلام الثوري. وبدلاً عن أن تواجه أحزاباً تحتشد أمام البرلمانات أصبحت الآن في مرمى دبابات وراجمات وبحار مفتوحة. الاحتفالات الأخيرة بعيد المولد النبوي في محافظات شمال الشمال اليمني ردّدت أهازيج شعبية تبشّر بتحرير مكّة. لم يسبق أن سمع السكان الاعتياديون مثل ذلك.

يروي العطّاس لسياسي جنوبي معروف "وعدني هادي أن ينكب آل الأحمر والإصلاح قبل عام من الآن". كان العطّاس يحاول أن يشرح لرفيقه الذي يجري في عمران.

اقترب الحوثيون من مدينة عمران، وقد أصبح 90% من المحافظة في قبضتهم. في تلك الأثناء غيّرت الأجهزة الأمنية السعودية خطوط اتصالها كلّياً، وفتحتها فقط مع الرئاسة. كان هادي حريصاً على الإيقاع بكل العسكريين المؤيدين للثورة. لم يصدر عن الرئاسة ووزارة الدفاع بيان واحد يدين حصار مدينة عمران. اكتفت الرئاسة بالقول إن ما يجري صراع جهات، وأنها ستقف على الحياد. الأحزاب السياسية، باستثناء الناصري، شنّت حرباً ضد الإصلاح، متّهمة إياه بإثارة الحروب. أما وزير الدفاع فذهب إلى جبل محيط بصنعاء والتقط صوراً مع القائد الميداني للحوثيين. كان وزير الدفاع أمين سر هادي، ومستشاره الأبرز.

في تلك الأثناء هاجم الحوثيون "همدان" على تخوم العاصمة. إلى همدان تعود أصول اللواء الجائفي، قائد الحرس الجمهوري المعيّن من قبل هادي. كانت المعركة الوحيدة التي اشترك فيها الحرس الجمهوري هي تلك التي استمرت أياماً دفاعاً عن همدان وانتهت باتفاق رعته الرئاسة. بعد ذلك غاب قائد الحرس الجمهوري عن المشهد كلّياً. في لقاءات اللجنة الأمنية العُليا، وهي لجنة يعود تشكيلها إلى زمن صالح، قال إنه يلتزم الحياد عملاً بتوجيهات الرئيس. وعندما تحدّثت إلى دبلوماسي رفيع تربطه علاقة أسرية بقائد الحرس الجمهوري أخبرني أن الأخير تلقى رسالة من الحوثيين تنصحه بالتزام الحياد إذا أراد أن يستمر قائداً بعد "الخطوة الكبيرة". حدث ذلك في الأيام التي سبقت اجتياح العاصمة. قال إنه لا يعلم ما هي الخطوة الكبيرة، وأنه لا يحب أن يفصّل كثيراً على الهاتف.

سقطت عمران ونهب الحوثيون أسلحة اللواء 310. وعندما طلب مجلس الوزراء من وزير الدفاع تقريراً عن الذي جرى قال إنه يشعر بالصدمة، فقد تعرّض لخديعة. وأن الحوثيين وعدوه بأنهم لن يهاجموا الدولة. وبندم مفتعل قال إن الحوثيين سيطروا على أكبر المعسكرات المحيطة بالعاصمة. ما لم يذكره الوزير في ذلك اللقاء هو الوعد الآخر. إذ بدا واضحاً من كلماته أنه اتفق مع الحوثيين على مهمّة أخرى.

قتل اللواء القشيبي، وكان أحد القادة الثلاثة الكبار الذين انضموا إلى الثورة، وسقطت عمران، ثم جاء الدور على العاصمة وفقاً لميكانيزم الحركة التاريخية في تلك البقعة البائسة من العالم.

رفضت وزارة الدفاع إصدار أي بيّان، أو حتى بطاقة عزاء. لم تصدر الرئاسة، هي الأخرى، بيان عزاء في مقتل أحد أكبر رجالات الجيش وانهيار معسكره. قال سفير دولة أوروبية معلّقاً "هذا الرجل كارثة، يبدو وكأن سقوط محافظة كبيرة في يد الحوثيين أمرٌ غير ذي بال “. لكن هادي اكتفى بلوم جنرال عسكري عاتبه على صمته قائلاً "سقط عشرات الضباط من الجنوب، فلا تجعلوا من مقتل ضابط شمالي قضية".

كان مقتل ذلك الضابط الشمالي، بحسب رؤية هادي للأحداث، هو الذي سيفتح باب رئاسة الجمهورية وستدخله ميليشيات الحوثيين وستعتدي على هادي بالركل والصفع على وجهه، بحسب اعترافات رئيس وزرائه للوفود التي زارته. الخبر الذي سيجري تكذيبه فيما بعد حفاظاً على كرامة رئيس لم يقم يوماً بعمل يدل على أنه يشعر بكرامته.

حاصر الحوثيون صنعاء، وطلب هادي اصطفافاً وطنيّاً. وفي نهار واحد خرج ملايين اليمنيين إلى الشوارع يطالبونه بإعلان التعبئة العامة. سلك هادي وادياً آخر وذهب يتحدث إلى الحوثيين قائلاً إنها حشود الإصلاح. كانت المملكة السعودية قد أحست بطعم الكارثة، أخيراً، فالسياسية الخارجية للمملكة السعودية تشبه استراتيجيات بائع الخُضرة، مداها الزمني يومين أو ثلاثة. طلبت من هادي الاحتشاد، ووعدته بدعم، وعرضت عليه تدخل الطيران السعودي إن لزم الأمر، طبقاً لرواية هادي لمجلس الوزراء عقب عودته من المملكة السعودية. غير أنه طلب لقاء السفير الأميركي شاكياً السعوديين الذين يريدون دفعه إلى الحرب.

انهارت الخطوط المفتوحة بين السعودية والرئاسة وأدركت الأولى أنها تعرّضت لخديعة موجعة من هادي، وأنها فرّطت بحلفائها استجابة لهوس استراتيجي مائع. ذهبت السعودية تتحسس ما بقي لها، ولم يكن قد بقي لها الشيء الكثير.

كان حصار صنعاء مدويّاً، جلب له الحوثيون كل ما لديهم من آلة عسكرية، وعتاد بشري. وكان واضحاً أنهم يريدون اجتياح المدينة الموعودة. في تلك الأثناء تصرّف هادي على نحو أكثر من مريب: أمر اللجنة الأمنية العليا بإصدار بيان يطالب وحدات الجيش بالحياد والبقاء في الثكنات. اتجه إليه وزير داخليته اللواء الترب، كما حدّثني، وعرض عليه خطة الحوثيين التي حصلت عليها الأجهزة الأمنية. استمع هادي لنصف ساعة شرح ثم علق بالقول "هذا فيلم هندي".

عبر الحوثيون شوارع صنعاء، ولم يجدوا أي مقاومة تذكر. أغلق هادي ووزير دفاعه هواتفهم، وتركوا صنعاء لمصيرها. سمع هادي من وزير دفاعه فكرة تقول إن الحوثيين سيصطدمون بالإصلاحيين، وهذا كل ما في الأمر. لم تكن تلك الفكرة المجنونة حاكمة لسلوك هادي ووزير دفاعه بل للنخب السياسية أيضاً. فقد أبلغ أمين عام الحزب الاشتراكي رفاقه بأن يلزموا الحياد "فلدى هؤلاء مهمة سينجزونها وسيعودون"، وكان يقصد الحوثيين. ولم يقل ما هي المهمة.

غير أن موقف الحزب من سقوط عمران كان واضحاً، وكان ينظر إلى الحوثيين بوصفهم طليعة ثورية ستنفذ مهمة خاصة للحزب، لطالما حلم بها إبّان الحرب الباردة. وما إن انهارت عمران حتى انفردت صحيفة الحزب بافتتاحية مثيرة وصفت موقف زعيم الإصلاحيين ب"عويل المهزوم". وبدا أن الاشتراكي كان منزعجاً للغاية من عويل المهزوم، لا من زئير المنتصر. أبعد من ذلك، فقد رأى الماركسيون سقوط عمران ضربة للمشروع الإسلامي "المهزوم". وأن ذلك السقوط المهيب لا يخص الجمهورية في شيء.

وحتى بعد سقوط الجمهورية وهيمنة الحوثيين على الحياة العامة، وظهور ملامح جمهورية الخوف أو وزارة الحقيقة الأورويلية، عقد الحزب الاشتراكي مؤتمراً عاماً انتخب فيه قيادة جديدة. في ذلك المؤتمر حضر الحوثيون وألقوا خطاباً نيابة عن الحياة السياسية في اليمن، وبحسبانهم "الحركة الفتّية" وفقاً للتعبير اليساري المبتذل.

عندما دخول الحوثيون صنعاء تركوا الإصلاحيين، وسيطروا على الدولة. وخلال ثلاثة أشهر نهبوا من السلاح ما قيمته 12 مليار دولار، بحسب أرقام المنظمة اليمنية لاسترداد الأموال المنهوبة. اجتاحوا كل شيء، بما في ذلك مقرات الحزب الاشتراكي اليمني والقصور الرئاسية. وضعوا كل الأحزاب والوزراء تحت الإقامة الجبرية. واعتقلوا رئيس الجمهورية وتجوّولوا في منزله، وتناولوا القات في القصر الرئاسي.

في يناير 2014 كتبت هذا النص، ونشر في حينه:

<< هذا السيناريو يبدو ممكناً:

الرابعة فجراً يقتحم آلاف المسلحين شوارع صنعاء بالعربات والأطقم العسكرية، وحشود المشاة. يسيطرون على الجولات والوزارات، ويعلنون حظر التجول، ويعتقلون رئيس الجمهورية، ويضعون قادة الأحزاب تحت الإقامة الجبرية. يعلن بعض قادة الجيش موقفاً محايداً. تصدر منظمات مجتمع مدني عديدة موقفاً متعاطفاً مع اللحظة الجديدة، متمنية "عودة الأمور إلى طبيعتها في وقت قريب". أمانة العاصمة جزيرة صغيرة تسكنها أغلبية مهاجرة. للكاتب اليمني محمود ياسين تعبير حاسم عن الطريقة التي يفكر بها ساكن أمانة العاصمة عندما يجتاز باب بيته إلى الخارج: يتوغل في أرض الأعداء. مواطنو عدن وتعز وإب والحديدة سيغلقون الأبواب والشبابيك ويفتحون قناة الجزيرة. ستنتهي العملية في ساعات>>

وفي 21 سبتمبر، 2014، حدث الجزء الأكبر من هذا السيناريو. وفي 19 من يناير، 2015، اكتمل السيناريو بصورته التي نشهدها الآن. لم أكن أرمي بالغيب. كان كل شيء يقول إن ذلك السيناريو المتخيّل في حينه هو النتيجة الطبيعة لكارثة صنعاء الحقيقية:

رئيس أحمق وحاقد، نخب سياسية تعيش في الحرب الباردة، شباب ثورة غير قادرين على تمييز الأصدقاء والأعداء، جيش ينتمي 25% من أفراده إلى محافظة واحدة متوسطة الحجم، نهم إيراني بالأراضي الجديدة، هوس سعودي بمكافحة الإسلام السياسي، جغرافيا تاريخية تعتقد أن الربيع العربي أخرجها عن القضبان، قائد ديني مسلّح لا يحصي خسائره، ونصف وطن في الجنوب تاه في خياراته، وأدار ظهره لكل شيء.

 أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)
أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)