كان يمكن أن يعدّ شعار الدولة المدنية (Civil State)شعاراً محايداً- في الأصل- كأي شعار لايحمل في أصله فلسفة بعينها، بل هو أشبه بوعاء توضع فيه أيّ مادة جيّدة أو رديئة، على خلاف شعار العلمانية(Secularism) ، ذي الدلالة الفلسفية المستقرّة، المحدّدة من الأصل، وذي النشأة الغربية القائمة على أسباب موضوعية صرفة هناك، ولديه حمولته المعرفية والقيمية الخاصة، المتأثرة بطبيعة البيئة التي ظهر فيها وتطوّر، لكنه (أي مصطلح الدولة المدنية) تعرّض لتوظيف غير بريء كذلك، بفعل ذلك التنازع الذي وقع في صفوف شباب ثورة الربيع العربي 2011م خاصة، فتحوّل إلى شعار أقرب إلى الفتنة منه إلى التوافق، وهو مازاد الالتباس حوله بمرور الأيام، ثمّ تفجّر الجدل حوله أكثر في المجتمع اليمني خاصة، منذ صرّحت السيّدة توكّل كرمان- بوصفها إحدى أبرز قيادات ثورة الربيع اليمني، وحاصلة على جائزة نوبل للسلام على تلك الخلفية (أو هكذا قيل)- في 15أغسطس/آب 2018م بدعوتها على صفحتها في الفيس بوك إلى إقامة دولة علمانية ديمقراطية لاريب فيها!
يرى البعض أن جمهور ثوار 2011م يعدّون توكّل كرمان بهذا الإعلان الصريح الواضح ناكثة لتطلعات شباب الثورة وأحلامهم، بدليل أنها لم تكن لتجرؤ على مصارحتهم بتبييتها هذه النيّة حينذاك- على افتراض حقيقة ذلك التبييت- وادّخار الإعلان عنها لمثل هذه اللحظة، التي تحسبها مواتية لها، بيد أنها أضرتها وسمعتها الأخلاقية وولائها لثقافة الربيع اليمنية الأصيلة، تلك التي تغذت في اتجاهها العام الغالب من روح الإسلام، وتشرّبت ثقافة الشعب المشبعة بها في كل المجالات. وتوكّل وإن حظيت بتأييد أصوات محدودة معروفة الانتماء والاتجاه، مع عدد أقل من بعض ضحايا المرحلة حتى من المصنّفين على اتجاهها السياسي - قبل أن يصدر بحقها قرار إيقاف للعضوية- فإنها قد فقدت - في نظر كثيرين- كثيراً من المصداقية والثقة والمقبولية والمسؤولية الأخلاقية، لدى شباب الثورة وأنصارها خاصة، وفي نظر المجتمع اليمني على نحو أعم، معوّلة في ذلك على مايسمى بالمنظمات الدولية والخارج الغربي الرسمي ككل. ومما يؤكّد ذلك أنه كلما كان يحدث جدل خافت أو محتدم بين شباب ثورة 2011م حول مصطلح الدولة المدنية ودلالاته وسرّ الإصرار عليه ينبري كثيرون ليؤكّدوا أن ذلك لا ولن يخرج عن المرجعية الإسلامية، فيهدأ الجدل، ولم ينقل عن توكّل مايناقض هذا التوجّه!
دولة العدالة:
بعيداً عن منطق توكّل كرمان الواضح الصريح في إقصاء مرجعية الدين في الحكم وإدارة الدولة، فإن الحديث هنا لايزال موجّهاً لأولئك الشباب البرئ الصادق الذين لم يكن يخطر ببالهم أن يحدث هذا الالتفاف على أهدافهم وتطلعاتهم، وإنما كان جدلهم حول دلالة المصطلح ودقته، وها نحن نرى إلى أيّ مدى أوصلنا المضي معه بتسليم وثقة، مع أنه لم يكن ثمة حينذاك مجال لخرق السفينة أكثر.
لذلك وخروجاً من الإلباس- إن كانت المشكلة في المصطلح- فإنني أرى أن ثمة مصطلحاً محايداً حقّاً يسهم في إزالة اللبس، ويرفع الجدل، إذ لم يقع - حسب علمي -لغط حوله كالذي وقع مع مصطلح (الدولة المدنية)، وربما جرى استعمال بعضهم له أحياناً، ولكن على نحو محدود وفردي وخافت، في معرض المقاربة مع الدولة المدنية، وذلكم هو مصلح دولة العدالة Justice State) )، حيث يضمن المقصود لكل الفرقاء الجادّين في مجتمعاتنا المتطلعة إلى الانعتاق من الاستبداد والتخلّف ، أعني أولئك الذين يتفقون على قيام دولة تضع الدّين مرجعية أساسية لها، لكن بعيداً فوبيا (الدولة الدينية) وعن الكهانة والأحادية المذهبية – إن كان المجتمع متعدّداً- ويضمنون في الوقت ذاته تحقيق القيم الكبرى كالعدالة والمساواة والكرامة والحرّية ...إلخ، وتحقيق التنمية الشاملة. ولست أدري- بعد ذلك- سبباً للتشبث بمصطلح دولة علمانية، أو حتى مدنية، خاصة بعد التشويه واللغط اللذين طالا المصطلح الثاني (المدنية)، منذ ظهور الربيع العربي في 2011م.
الحق أننا إذا كنا لانزال متفقين على مركزية الدين في الدولة المعاصرة المنشودة، مع وقوع الإشكال في مصطلحي العلمانية، وحتى المدنية كذلك، المعبِّرين عن مقصودنا، فإن مصطلح (دولة العدالة) لايحمل أيّاً من ذلك اللبس، ولا يلتبس بعناوين مريبة تدعو إلى النفور منه ابتداء، أما الإصرار على أيّ من المصطلحين السابقين (العلمانية أو الدولة المدنية)، بعد كل ذلك اللغط المثار، فلا أحسبه سوى تأكيد على أن وراء الأكمة ماوراءها - كما تقول العرب- أي أن الدّين بشموله وفاعليته مستبعد من الدولة المنشودة، بأي عنوان من العناوين، قبل أن تتشكل الدولة، ولذلك يرفض من يرفض أو يتحفظ على مصطلح (دولة العدالة)- على سبيل المثال- مع ابتعاد المصطلح عن الإشكالات المثارة، حتى على افتراض حسن النية، وسلامة القصد، وترديد مقولة أن المصطلح في حدّ ذاته لايمثّل مشكلة، فإن رفضهم أو تحفظهم على المصطلح (الحيادي)، ذاك الذي لايثير اللغط أعني (دولة العدالة) يؤكّد أن ثمّة مشكلة حقيقية تثوي في عمق هذا الجدل وخلفيته، وإلا فلماذا الإصرار على المصطلحين المشكِلِين وترك ماليس كذلك؟ وإذا كان من المفهوم لمن يجاهر بالدعوة إلى العلمانية ويماهي بينها وبين الدولة المدنية صراحة، غير ملتفت إلى دين أو ثوابت أو فلسفة اجتماعية لمجتمع، سواء أمس (موسم الربيع العربي) أم اليوم فإن ما سيغدو غير مفهوم هو بروز موقف رافض أو متحفظ على استبدال مصطلح (الدولة المدنية) بـ(دولة العدالة)، خاصة ممن يُعرف عنه عدم ارتباطه بتلك المشاريع المجاهرة بتبنيها الصريح للاتجاه العلماني بكل حمولته الفلسفية والثقافية والقيمية، إلا إذا كان ثمّة منزع (سلفي تقليدي ماضوي أو أصولي حرفي بالمعنى الغربي للأصولية) يستأسره -وهو الذي لطالما شكى من كل ذلك- فيحدث كل هذا اللغط، ولكن في الاتجاه العلماني الضمني أو غير الصريح، مادام يؤكّد على مرجعية الدين مرجعية أساسية في الدولة المنشودة، في حين يقع في كل ذلك الارتباك والإلباس، فيكبر الإشكال، وتشتد الحيرة أكثر!