علي العمراني

العلمانية أم اجتهاد خارج النص ..؟

علي العمراني
السبت ، ١٨ أغسطس ٢٠١٨ الساعة ٠٩:٣٢ صباحاً

الحرب وما يسفر عنها من معاناة وآلام ستجعل كثيرين يفكرون ويتصرفون خارج المألوف ، وهذا أمر طبيعي ..ولأن الحرب في اليمن، سببها فَقِيه ديني، أو هكذا يفهم أو يدعي، فستكون نصوص دينية وفهوم كثيرة للدين محور التناول والنقاش، والأخذ والرد..

 

وبالنتيجة فإن الحرب، قبل وبعد أن تضع أوزارها، ستحدث تغييرات هائلة في التفكير والممارسات، سلبا وإيجابا ..

 

يقال إن الدين هو أصل الفضائل ، لكن ذلك لا يعني إن الإنسان غير المتدين ، خلق شريرا، بلا ميول إلى ما يصلح حاله في هذا الوجود الإنساني الهش، مثل الصدق والإمانة والعدل .. وقد يميل المتدين وغير المتدين إلى الزيغ والخراب أحيانا، وهذا ملازم للطبيعة الإنسانية غير الكاملة..

 

كثير من الممارسات باسم الأديان تفضي إلى ظلم الإنسان لأخيه في الدين أو الإنسانية،وقد يستند الجميع إلى نصوص وأدلة دينية .. نعلم ما يقترفه أتباع الديانات بحق بعضهم في ظروف معينة، يفعل ذلك اليهود الان مع المسلمين في فلسطين، وفعله المسيحيون مع اليهود والمسلمين في الغزوات الصليبية وفِي محاكم التفتيش، وسنجانب الصواب لو برّأنا المسلمين من مظالم وتجاوزات حصلت في مناسبات متعددة ضد اتباع ديانات أخرى.. ويلاحظ أن التظالم يحدث من اتباع الديانات ضد بعضهم أكثر وأشد مما يحدث بين أبناء الديانات المختلفة..ونعاني في اليمن الآن مما يفعله بِنَا إخواننا في الدين والملة والأصل والفصل.. واقصد ما يفعله متدينون ظاهرهم التقى والصلاح، وحقيقة ما يفعلون هو الظلم والخراب .. فقطع الطريق والتنكيل بالمسافرين بين صنعاء وعدن، يوجه به داعية سني متدين ،خريج من دماج كما قيل، وظاهره التزام بالكتاب والسنة، لكن الممارسات على الأرض مجحفة وظالمة ومذلة.. كما أن سفْك دماء اليمنيين منذ 2004، وخراب اليمن ، تسبب فيه ويقوم به فَقِيه زيدي متدين، ورث مفاهيم خطيرة عن أبيه وأخيه، وحصيلتهم جميعا من المعرفة الإنسانية محدودة، و يزعمون أنهم من قرناء كتاب الله، أبا عن جد، إلى محمد صلى الله عليه وسلم..وحجة هذه "الفقيه" على الناس أنه ابن النبي المرسل من السماء ، وأن من حقه السيادة والحكم بنصوص دينية صريحة وضمنية، كما يراها هو على الأقل ويفهمها ، وسلم بذلك آخرون كثيرون حينا من الدهر ، بل منذ مئات السنين ..!

 

أعلم أن لا أحد ممن أشرت إليهم أعلاه حجة على الدين، لكنهم يحملون كتاب الله بيد وبالأخرى يحمل أحدهم سلاحا أو يزرع لغما قد يودي بحياة أشخاص في طريقهم لأداء صلاة الفجر ..ومن أولئك أيضا أصحاب الأحزمة الناسفة والمفخخات كما نعرف..وما ننسى اغتيال أئمة المساجد في عدن وتعز، ولا أولئك الذين قُتلوا ظلما في أبراج مانتهاتن وما تلاها في باريس ولندن وبرلين ومدريد..وهل ننسى ما يحدث في السلط وعمان، وحدث صنعاء والقاهرة وبغداد والرياض، وكله بسبب فهم معوج للنصوص والأحكام.

 

أهل الدين الذين كانوا يتصفون بالسلم وحسن الفهم والحكمة قبل عقود وقرون، خلفَهم الان أولئك الذين يحملون السلاح، ويضعون الألغام ، ويطورون الصورايخ الباليستية ويستعينون بشياطين الأنس، عرب وعجم، لممارسة الظلم ، وتفكيك البلدان، وخراب الشعوب ولهم الكثير من الأتباع والتأثير..وكلهم يستندون إلى فهم معين للدين، نصوص وأدلة..

 

والحقيقة ، فإن بعض المتدينين المتعاطين للسياسة والمنخرطين في الحروب ، ليسوا وحدهم من يتسبب في الخراب والظلم، فغيرهم قد تسبب في مظالم ، بمستويات متفاوتة، في العقود الماضية ، في عالم المسلمين وغير المسلمين، نتذكر هتلر وستالين،وماو وترومان صاحب القنابل النووية وهناك آخرون كثر ..لكن المتعاطين للسياسة والمنخرطين في القتال الْيَوْمَ، بغطاء أو بصبغة دينية، يمعنون في إضفاء هالة القداسة والعصمة على ما يتبنون ويفعلون ويقولون، ويشنعون على مخالفيهم ويوصمون خصومهم بالخروج عن موجبات الإيمان، وما يترتب عليها من وَعَيد وعذاب ونكال، وحتى إقامة الحدود، الردة مثلا، في حالة التمكين..!

 

اللصوص ، الذي سرقوا المليارات من اليمن وغير اليمن، يسرحون ويمرحون في كل أصقاع الأرض، وفِي اليمن، ولكن لو يقف لص صغير، ثبت أنه سرق عشرة الاف ريال يمني، أمام قاض يحكم بنصوص، فقد يحكم بقطع يده ..!

 

وتهدف المقارنة هنا للإشارة إلى مستوى المفارقات الظالمة الواقعة في عالمنا المريض .. ولا اعتراض على عقاب اللصوص، غير أن عقوبات مثل قطع اليد، تحتاج إلى اجتهادات خارج إطار النصوص بعد ما تغير الزمان وتنوعت أشكال الردع والعقاب وبعدما بنيت السجون، ووضعت لها ترتيبات وموازنات ..!

 

ولعل مرسوم منع الرّق الذي أصدره الملك فيصل في ستينات القرن الماضي، يأتي خارج إطار النصوص أو فهمها طوال قرون مضت ، وما يجري اليوم في السعودية من إصلاحات، يدخل في إطار تجاوز نصوص، تمسك بها شيوخ السنة سنين طوال، وتسببوا في الكثير من الأذى والتضييق على جيل كامل .. وهناك مِلْك اليمين الذي كان ساريا إلى عهد قريب، وتم تجاوزه عمليا، وفي تجاوزه ما يمكن اعتباره تحريم ما أحل الله بنصوص، مقارنة بما كان مقبولا وممارسا لمئات السنين ..!

 

ومن ذلك ، زواج المتعة، الذي كان متاحا لكافة المسلمين، وحرمه أهل السنة، وبقي عليه أهل الشيعة، ربما إلى حين ..

 

الإجتهاد مع النص، أو نسخ بعض الآيات والاحكام ومحو بعض الآيات، وتبديلها تم في عهد النبي، واجتهد خارج النصوص المؤسس الأول لإمبراطورية الإسلام العظيم عمر ابن الخطاب،مثل إيقاف حق المؤلفة قلوبهم وإسقاط حد السرقة وقت انتشار الجوع ..

 

كنت مشاركا في إعداد قانون البنوك الإسلامية في اليمن، وأقرته اللجنة المالية التي كنت أرأسها، وطرحت موضوع القرض الحسن أثناء النقاش ، وسخر أحدهم رحمه الله، قال ما في شيء بلاش، وحاولت تضمين نص في القانون بهذا المعنى ، لكن أثره كان هامشيا.. وَلَمَّا جاء التطبيق، لاحظنا أن الفرق في الممارسات والنتائج بين البنوك الإسلامية والتقليدية شكلي، لكن الأهم من ذلك أن جل أموال المودعين وجهت لخدمة تعظيم ثروة أغنياء بعينهم .. إن ذلك لا يعني أن النظام البنكي القائم على الفائدة، الذي يعده بعضهم ربا محرما، نظام عادل وكامل ، لكنه يعمل في العالم كله، حتى يتطور نظام اقتصادي ومالي، أكثر عدلا، بفعل تطور المعرفة، والتقنية على وجه الخصوص.. غير أن ما يسمى بالنظام المالي الإسلامي الممارس الآن، لا يحقق المقاصد المأمولة في تقديري ، فهو لم يرسخ مفهوم العدل ، فضلا عن معالجة قضية الفقر وتوزيع الثروة في ديار المسلمين ..واقصد هنا أن هناك من حرم التعامل مع البنوك التقليدية، ووضع المسلمين في حرج، استنادا الى نصوص، بعيدا عن مقاصدها..

 

وهناك قضايا الحكم والحقوق.. فمن المعلوم أن الدين كان ملاذ كثير من الحكام عبر العصور ليس، غالبا، بهدف تحقيق العدل بين الناس، أو بين الحاكم والمحكوم،أو ما يتضمنه الدين من قيم نبيلة، ولكن بقدر ما توفر بعض تفسيرات لبعض نصوصه، من إذعان وطاعة، غير مستحقة أحيانا .. ومن لا يرضخ فالسيف هو الفيصل،والفتوى والمفتي جاهزون.. وكانت الشروط الدينية في من يحق له أن يحكم عديدة ، عبر التاريخ والأمم، وكان لا بد أن يكون للحاكم علاقة بالسماء أو بالنبوة، مثل حالنا .. وقد يكون الحاكم في مرتبة إله كما كان في اليابان ، أو إبن إلسماء كما في الصين.. وما يحدث في اليمن الان، من نقاش وقتال يدل على أن التخلف والتوحش والعزلة الوجدانية والفكرية والعقلية ما تزال تطْبِق على حياتنا في بداية الالفية الثالثة، خلافا لبقية أمم الدنيا.. أما انتظار المهدي، عند آخرين، فقصة أخرى تثير الغرابة ، مثل عقيدة انتظار عودة المسيح التي تسببت في جانب كبير من الظلم في فلسطين ..!

 

لفت نظري النقاش الراقي الذي يدور في تونس حول موضوع المساواة في الإرث بين النساء والرجال، الذي تبناه الرئيس السبسي، وهو موضوع ما يزال شائكا .. ولاحظت مستوى عال من الرقي والتفهم في بيان الشيخ الغنوشي على صفحته، ولم الاحظ وعدا ووعيدا أو تشنجا، وهو قد يعترض، لكن البرلمان إذا أقر مشروع السبسي، فأرجح أن الغنوشي لن يتشنج ولن يفسق أو يكفر أحدا ..

 

إن الأصل هو المساواة بين النساء والرجال في الإرث وغير الإرث، بما في ذلك النفس بالنفس، وهنا تتجلى القيمة الإنسانية لمجموع الجنس البشري، المكون من الرجال والنساء.. ولعل نص للذكر مثل حظ الأنثيين يرجع إلى ضعف مساهمة النساء في انتاج الثروة والملكية ومسؤولية الإنفاق في عصر الاقتصاد الزراعي .. أما في عصر اقتصاد المعرفة، وزمان أنجيلا ميركل ، وتريزا ماي، والملكة إليزابث، فإن كثيرا من النساء قد يكسبن وينتجن وينفقن ويتحملن مسؤولية مثل الرجال وأكثر، وبالتالي فإن إعادة النظر في فهم أسباب ومقاصد النص وعدالة التوزيع، ستكوون أمرا حتميا.. ومفهوم أن التحولات والتبدلات والثورات الاقتصادية والإجتماعية، والتكنولوجية، تحدث هزات وخلافات وتوترات لا مناص منها.. ويكون مصير الذين لا يتعاطون معها بتفهم وإدراك التراجع والتلاشي والتهميش والضياع..

 

ربما يلزم التنويه إلى أن الحقوق التي جاء بها الإسلام كانت متقدمة على عصرها، وما سبقها، وإلى الان في بعض المجتمعات، ومن ذلك موضوع حقوق النساء وإنسانيتهن واعتباراتهن في الإرث وغير الإرث.. وإذا أخذنا بعين الإعتبار أن النساء، في أكثر قبائل اليمن ، خاصة القبائل المحاربة لا يؤخذن الإرث إلى الآن .. وليس من السهولة أن يُعطَين أرضا فيما لو طلب أبناؤهن ذلك ، ومثل هذا الطلب نادر، وتعده القبائل "عيبا" في من يطلبه، فيمكن فهم سياق وظروف بعض الأحكام التي وردت في النصوص، فيما يخص الإرث .. والسبب العملي فيما يخص إرث النساء في القبائل ، هو أن القبيلة مجتمع ذكوري، محارب، عند الضرورة.. ولا يثقون في من لا ينتسب لهم من جهة الجد، ويحمل لقبهم وهويتهم واسمهم ، فيما لو حدث احتراب بينهم وبين قبيلة أخرى، لهم بنت مزوجة فيها.. ومن جهة لا يستطيع الأبناء الإستفادة من أرض زراعية عند قبيلة أخرى في حالة نشوب خصام أو حرب بين القبيلتين ..!

 

ولا بد من التأكيد أن الغرب ليس قدوة ونموذجا يحتذى في كل شي، لكن العالم قطع مسافات كبيرة في الشرق والغرب، في سبيل ما يجعل الحياة على هذه الأرض، أفضل.. ولأن كوكب الأرض يسكنه بشر منذ آلاف السنين، فما تزال تجربة الصح والخطأ هي السائدة في كل مناحي الحياة، وغيرنا أقرب إلى مفهوم التسديد والمقاربة التي تحدث عنها النبي عليه السلام ( سددوا وقاربوا) .. أما نحن فما نزال نعيش في حقب الشعور بالكمال المطلق في كل شيء.. ونحن نعتمد على غيرنا في كل شيء، حتى الرصاص الذي نقتل بِه بعضنا..

 

المفكر الأمريكي لستر ثارو، قال معلقا على انهيار الإتحاد السوفيتي، قبل حوالي ثلاثين عاما: إن سبب إنهيار تلك الدولة الضخمة يرجع إلى عدم المرونة، والتمسك بالنصوص..وسبب بقاء أمريكا، هو مرونتها وتقبلها للأفكار الصائبة من أي جهة جاءت، أو ما سماه مبدأ الذرائعية ..

 

في 1992 كنت أشاهد جلسة للجنة القضائية في مجلس الشيوخ الأمريكي، يرأسها جو بايدين، الذي صار نائبا للرئيس الأمريكي في عهد أوباما .. بعد حوالي عشرة أيام ، لم تنتهِ اللجنة إلى قرار واضح عن الموضوع المطروح أمامها، وهو قضية كليرانس توماس وأنيدا هيل، لِمَن يتذكر، وقرروا لذلك إعادة عرض الموضوع على مجلس الشيوخ للبت فيها مباشرة .. واختتم بايدن كلامه حينها : هذا هو نظامنا ليس كاملا ، لكنه يعمل..!

 

اندهشت في عام 1992 من سماع هذا الكلام في أمريكا، أعظم دولة على وجه الأرض .. وربما في التاريخ .. وتذكرت الثناء والمدح والكمال الذي ندعيه لكل شيء عندنا.. ولو كان ذلك الشيء هو النقص والعوار بعينه.. حينها عرفت لماذا بقيت أمريكا وسقط الإتحاد السوفيتي.. وأدركت سبب ضياع العرب وكثير من المسلمين ..

 

وفِيما يخص النقاش حول العلمانية ، أعجبني تعبير للدكتور اليمني المتميز ، أحمد الدبعي الذي يدَّرس في جامعة بريطانية ، عندما قال : طبقوا مفهوم الإنسانية ، قبل المطالبة بالعلمانية ..!

 

القران كتاب هداية واختيار، وإذا ترسخ هذا المفهوم فسيدخل في دين الإسلام أكثر أهل الأرض .. وإذا أصر البعض على الجبر والإكراه والتفسيق والتكفير وفرض الخيارات بالجهاد والقوة ، كما يفعل الحوثي وداعش وآخرين، فقد يجانب الإسلام الكثير ممن ورثوه عن آبائهم وأجدادهم عبر القرون ..ومع الزمن لن ينفع التفسيق والتكفير ولا الجبر والإكراه..

 

مع جمال ديننا، وعظمة نبينا، قد يكون مفيدا أحيانا التفكير خارج النص.. ولو قدر لنا أن نسأله الْيَوْمَ صلى الله عليه وسلم ، لربما قال : إفعلوا ولا حرج..!