أهل الأديان لا يتقاتلون من أجل أن يدفعوا ببعضهم إلى الجنة، وأهل الحق لا يتصارعون ليقنعوا بعضهم بقبوله، وأهل الأوطان لا يتحاربون من أجل بنائها، لسبب بسيط، وهو أن من يريد الجنة لأخيه لا يقتله ليقذف بروحه في الفردوس، ومن يريد أن يرشد إلى الحق، فإن الكلمة والإقناع هي الطريق، أما من يريد أن يبني الوطن، فإنه لا يبنى الوطن من جماجم أبنائه.
هذه هي الحقيقة، لكن الطائفيين يوهمون أتباعهم بأنهم سيصلون بالقتال إلى جنة الآخرة، في حين يصلون هم إلى جنة الدنيا، التي لأجلها فجروا حروباً باسم الله والنبي والدين، وأهل البيت والصحابة والمقدسات الأخرى. أما من يزعم أنه يسعى لبناء وطنه من جماجم أبناء هذا الوطن، فتلك الخديعة الكبرى، التي يلجأ إليها الفاسدون والديكتاتوريون وأعداء الأوطان، إذ في الوقت الذي يخدعون فيه الأتباع بأن قتالهم ليس إلا لأجل الوطن، فإنهم يضحون بهؤلاء الأتباع من أجل الوصول إلى سلطة الوطن وثروته، لا إلى الوطن المنشود.
وقد كان أجدادنا «الجاهليون» يرفعون شعار «شرف القبيلة» يقاتلون تحته، لكي ينهبوا «ماء وكلأ» القبيلة الأخرى، بعد أن يجلوها عن أراضيها، وكان قطاع الطرق لا يعدمون المبررات الأخلاقية لنهب الناس والاعتداء على ممتلكات المسافرين، بحجة النيل من الأثرياء، لإطعام الفقراء، كما فعل «صعاليك العرب» الجاهليون، وكما فعلت الحركات الشيوعية في عقود القرن الماضي المتصرمة. أما الرأسمالية فقد نهبت خيرات شعوب البلدان النامية، تحت مبررات نبيلة مثل «الانتداب» للعمل على تحضرها و»الوصاية» عليها حتى تبلغ سن الرشد، في مغالطة مقيتة تنم عن تغليف شهوة «الغزو» البدائية القديمة، في ثوب حضاري أنيق، ولذا أطلقوا على «الاحتلال» تسمية «استعمار»، وهي الكلمة النبيلة المشتقة من البناء والتعمير، قبل أن تعبأ بمفاهيم كريهة، بفعل ممارسات «المستعمرين» الذي جاؤوا إلى البلدان «البدائية» لينقلوا أهلها من أطوارهم «الهمجية»، إلى أطوار «مدنية» تحاكي ما عليه الحال في بلدان المستعمرين.
إنها «فتنة الشعار»، تجعلنا نخوض حروبنا «غير المقدسة» لقتل أنفسنا، في سبيل الله، ولتدمير أوطاننا في سبيل بنائها. ومشكلتنا في الشرق أننا نتعلق بالشعار، بالكلمة، بالصورة، بالفكرة المدمرة، وتتلبسنا أحياناً كثيرة حالات من «الماسوشية» التي يتلذذ فيها المريض بتعذيب نفسه، ناهيك عن «السادية» التي يتلذذ فيها المريض بتعذيب الآخرين، في مجتمعات تعج بالفقر المادي والروحي، على حد سواء.
لا أحد في لندن يهتف بحياة مسؤول بريطاني، ولا تعلق صور الملكة اليزابيث في الشوارع العامة، وكثير من الأمريكيين لا يعرفون اسم الرئيس الأمريكي، وعلى وزير خارجية النرويج أن يدفع من جيبه تكاليف سفره، وعند عودته يقدم فواتير نفقاته التي إذا زادت عن وجبتين في اليوم، وعن إيجار الفندق، فإن عليه أن يدفع ما زاد من جيبه الخاص. يطيب لنا نحن الذين نكتب في الشأن السياسي والثقافي، أن نضرب أمثلتنا من بلدان ما وراء الضفة الشمالية للمتوسط، وإذا كنا محافظين فإننا نضرب الأمثال مما وراء القرون الغابرة. ذلك إن الحاضر العربي المعيش اليوم تندر فيه الأمثلة التي نريد أن نقرب بها الأفكار للقراء.
ليس بإمكاننا بالطبع أن نردم الهوة الكبيرة بين ضفتي البحر المتوسط، ولا نستطيع جر القرون الذهبية للإسلام من قرونها إلى الواقع المعاصر، ولا نحتاج إلى ذلك، ولكننا نحتاج إلى مد الجسور بين الضفتين من جهة، وإعادة هندسة طبيعة «الأقنية» الممتدة بين حاضرنا وماضينا. نحن في هذا الركن القصي من العالم (قصي بالمعنى الحضاري والفكري والروحي) بحاجة إلى المصالحة، والمصالحة لا تأتي إلا إذا اعترفنا أننا نخوض حروبنا الشخصية وندعي أننا نخوض «حرب الله»، وأننا نقاتل أبناء وطننا وأمتنا، وندعي أننا نقاتل الأعداء وعملاءهم، وأننا نفتعل الحروب للسطو على السلطة والثروة ونقول للأتباع إننا نقاتل دفاعاً عن وطن، فرطنا في سيادته في اليوم الأول الذي قتلنا فيه أبناءه، وأحدثنا الشرخ الكبير بين شرائح مجتمعه. إذا اعترفنا بهذه الحقيقة، فحينها سيظهر لنا كم نحن فقراء حس وعديمو خيال، ومنزوعو رحمة وروح ومحبة ووطنية وجمال وذوق وأخلاق ودين وقيم.
وهنا يمكن القول: لأن الإسلام ليس في وضع أفضل، فهذا يعطينا انطباعاً بأن معاركنا ليست لأجله، ولو صح أن حروبنا من أجل الأوطان لكانت أوطاننا اليوم حرة مستقلة، ولو كانت «غزواتنا» لنصرة الحق في أوطاننا لما تسيد أهل الزيغ والباطل والبهتان والكذب والديكتاتوريات على سلطة وثروة هذه الأوطان.
لسنا موتى، ولكننا مصابون بأمراض شتى تحتم ضرورة القيام بـ»كورسات» طويلة من العلاج النفسي والروحي والفكري والقيمي، من العلاج المعرفي والتكنولوجي والعلمي، ومن العلاج الإنساني والمدني الثقافي، لكي نخرج من «فتنة الشعار» وخديعة كلمات الزعماء، ومن الأيديولوجيات المحنطة التي تنتهي بنا أفراداً منعزلين عن الواقع، نهيم في عالم من الوهم والأحلام الطوباوية المرضية.
نحن حقيقة في ورطة حضارية، وما كل هذه الحروب في منطقتنا العربية (في أحد تفسيراتها) إلا انعكاس للإحساس الجارح بهذه الورطة الحضارية، أو المأزق التاريخي. لكننا في مسعانا الطويل للخروج من هذا المنعطف بحاجة إلى تأمل تضاريس هذا المنعطف، ومنحنياته المجهولة، كما أننا بحاجة إلى تصويب البوصلة كي نعرف إلى أين نذهب، ومن أين جئنا، وكما البدوي في الصحراء يجب أن نرقب حركة النجوم ونحن في هذه المفازة الرهيبة، ضمن هذا الليل الدامس. وهنا يجدر القول إننا لسنا بحاجة إلى طرح التراث الروحي والفكري والثقافي، ورميه في البحر أثناء محاولاتنا العبور إلى الشاطئ الآخر، ولكن يجب أن تكون هناك مقاربة ما لتراثنا، تجعلنا نعيد إنتاجه بطريقة يمكن بها إيجاد مصالحة حقيقية بين الماضي والحاضر، بين الدين والتدين، بين المصالح والقيم، بين الشرق العربي والعالم، وبيننا وبين أنفسنا.
هذه المقاربة تقتضي الانفتاح على الواقع وعلى النص، تقتضي البحث في «فضاء النص» عن نجوم نسقط ضوءها على الطريق الملتوي في ليل هذه البرية البهيم، لتكون دليل سفرنا الطويل إلى أحلامنا وأحلام أطفالنا في حاضر لا يكون صورة كربونية من الماضي، وفي مستقبل مختلف عن حاضر نريده أن يكون- بدوره-مختلفا.
وبهذه المناسبة يجدر القول بأننا يجب أن نتحلى بروح المغامرة، وحب الاستكشاف، وعدم الخوف من الاقتراب من «المقدسات» لا لنقضها، ولكن لفهمها، وعدم التردد في مناقشة ما أنتجه لنا الأسلاف، ومراجعته على ضوء سياقاته التاريخية، ومتغيرات واقعنا المعاصر. كُتب هذا الكلام كثيراً بأقلام شتى وفي صحائف كثيرة، غير أننا ما زلنا ننتظر تلك اللحظة التي يصرخ فيها المولود الجديد حال تمخض بطون الأيام والليالي عنه، بعد كل هذا الليل الطويل، وهذا المخاض الذي سمع العالم بسببه صراخ «أمة» بأكملها حملت حملاً ثقيلاً، لا «أما» واحدة حملت حملاً خفيفاً.
وعندما يولد هذه المولود «الكبير»، فإنه لن يعلق صوره في مياديننا العامة، ولن يجرؤ على رفع شعارات مخادعة، ولن يكذب علينا بسبحة طويلة في يده أو بندقية «مؤجرة» لأهدافه السلطوية، ولن يتفذلك علينا بأيديولوجيا محنطة، وسيدفع من جيبه الخاص، إذا أنفق على مصالحه الخاصة، كما فعل وزير الخارجية النرويجي، وكما فعل قبله عمر بن عبدالعزيز. وحينها سنكون مسلمين بدون الحاجة إلى كل هذا الصراخ الذي نحاول عن طريقه أن نقنع أنفسنا ونقنع العالم بأننا مسلمون.
* القدس العربي