كان في حسابات ثوار «الربيع العربي» في اليمن أن تنجح تعز في «مَدْيَنَة» صعدة، ولكن حدث العكس، حيث نجحت صعدة في «قَبْيَلَة» تعز. لم تذهب المدارس والأحزاب السياسية والنقابات والفنون والموسيقى إلى جبال مران، ولكن هبطت المليشيات والملازم والعصابات و»زوامل» الإعلام الحربي إلى «الحالمة».
وبعبارة أخرى ثارت تعز لكي يتم «تمدين» صعدة لكن النتيجة كانت «ترييف» تعز ذاتها. الترييف بكل ما يعنيه من مفاهيم «التجريف» لقيم الحياة المدنية، ومن تكريس للماضوية، والعودة للعصبويات المؤسسة على الكليشيهات الدينية والاجتماعية المقولبة.
كان الشباب يؤملون أن يصلوا إلى دولة مدنية يحكمها دستور وقانون، فوصلت ثورتهم إلى يد جماعة تريد أن تقيم دولة دينية على النمط الثيوقراطي، لها مرجعية دينية في صعدة، وأخرى سياسية في صنعاء. كان المؤمل أن يتخلص اليمنيون من حكم العسكر، فوقعوا في فخ المليشيات المتعددة، كان الهدف التخلص من عوامل الفساد السياسي والاقتصادي التي مزقت الوحدة الوطنية، فآلت الأمور- حتى اللحظة – إلى تمزيق الوحدة، وتعالي صرخات التقسيم. كان الشعار المرفوع هو الحفاظ على بنية الدولة وإسقاط النظام، فسقطت الدولة وبقي النظام، أو سقطت الدولة السطحية، وبقيت الدولة العميقة، لتعيد إنتاج النظام، بشكل أكثر دموية وتخلفاً.
كان شعار الثورة يدور حول «السلمية ومواجهة الرصاص بالصدور العارية»، لكنها تحولت إلى انفجار دموي يلطخ الصدور والشاشات كل يوم بالبقع الحمراء. كانت الأهداف تصب في مجرى تصويب معنى الجمهورية، وتخليص رايتها من شبهة التوريث، فوصلت الثورة إلى يد جماعة إمامية تُمارس التوريث من قائد المليشيا المؤسس إلى قائدها الحالي، أو لنقل ثار الشباب ضد التوريث المدعوم بـ«قوة السلطة»الدنيوية ليقعوا في قبضة مليشيا تؤمن بالتوريث على أساس «سلطة النص» الديني، جماعة تمجد الإمامة وتغمز من قناة الجمهوريين من دون مواربة. رفع الثوار شعار الخروج من سلطة عسكرية قبلية لـ«رئيس سنحان»، وسلمت الثورة- حتى الآن- إلى سلطة دينية مليشاوية لـ«سيد مرّان». لم تأت الثورة بتخطيط، ولم تكن لها قيادة، ووقعت في فخ الانتهازيين الذين ركبوا موجتها ممن انسلخوا عن المنظومة الفكرية والسياسية والعسكرية والثقافية للنظام ذاته، الأمر الذي ساعد في إعادة إنتاج النظام، الذي حور الصراع من صراع بين شعب يتوق إلى الانعتاق والحرية والعدالة من جهة، ونظام متسلط فاسد من جهة أخرى، إلى صراع بين أجنحة متصارعة بعضها ينتمي للنظام وبعضها ينتمي للمعارضة، وبتحالفات جديدة، أدت إلى تكريس حالة من الصراع تغيب فيها الرؤى وتنعدم الرؤية، وتتشابك فيها المصالح والأيديولوجيات والعصبويات المختلفة.
ومع استمرار الصراع يتراجع المجتمع اليمني في المفاهيم الاجتماعية للتمدن، يكاد يتحلل إلى مكوناته الطائفية والقبلية والمناطقية، في ظل غياب تام لـ»النُخَب» التي لم تكن أكثر من «مليشيات بربطات عنق منمقة»، أو بـ»شعبويات بعمائم فارغة»، سواء أكانت تلك النخب سياسية اجتماعية، أم ثقافية فكرية، أم روحية دينية.
واليوم، تنتشر حركات التطرف الديني، وتطل برأسها حركات مضادة تهاجم الدين من منطلقات عاطفية نزوعية في ردة فعل لانهيار «أحلام الربيع»، كما خرجت العصبويات العنصرية من قمقمها، لتطل علينا من الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي، وميادين القتال. أما المفكرون- إن وجدوا- فقد تواروا خلف مراراتهم العديدة، وأما دعاة الإصلاح والسلم الاجتماعي فذهبوا إلى بقعة قصية في جغرافيا الألم واندسوا هناك، وأما الساسة الحكماء فقد توزعتهم المنافي البعيدة، وأما رجال الأعمال فقد هربوا مع أموالهم إلى حواضر أخرى صبوا فيها خزائنهم بعيداً عن «الزوامل» وطرقعات السلاح، في صنعاء التي لم يعد فيها غير العسكر والمليشيات، وزعماء الحروب، وخطباء يلعنون أمريكا وإسرائيل واليهود، والتكفيريين والنواصب.
صنعاء التي مشت القصائد في شوارعها في التسعينيات من القرن الماضي، غدت قرية موحشة بعد أن لملم الشعراء أطراف قصائدهم وذهبوا لملاقاة الفجر الذي اعتقلته الكهوف والسراديب. صنعاء التي «حَوَتْ كلَّ فن» أصبحت جدارية ضخمة للشعارات الطائفية والرايات التي تعود إلى مئات السنين. صنعاء المدينة التي «تَرَيَّفتْ» بعد أن غزاها الريف «المُجَهَّل» لم تعد تتهجى حروف اسمها المنقوش على صخرة كبيرة بالخط «المسند الحميري»، وكتب شاعر جميل من شعرائها عبارة موجعه على حائطه، تقول: «هذه ليست صنعاء التي عرفناها»، قبل أن يمضي كسيراً، يجر قصائده بعيداً نحو أحلام مبددة. صنعاء التي قال البردوني إنها «ماتت بصندوق وضاح»، تعيش اليوم حالة موت سريري في صندوق الخرافات الشعبوية التي حملها الخارجون من شرنقات الأزمنة الغابرة.
أما عدن التي شهدت ميلاد أول صحيفة في الجزيرة، والتي انطلقت منها حركات التجديد الفني والشعري، والتي شهدت دور المسارح والسينما وصالات العروض الفنية، والتي سلبت فؤاد رامبو، والتي كانت مهوى أفئدة الرسامين والفلاسفة والمفكرين، عدن تتكشف اليوم عن سلوك بدائي يعيش على ماضي عدن، فيما سلوكها الحالي يمت بصلة للنزعة العصبوية القبلية والمناطقية والتطرف الديني. عدن- اليوم- تسيطر عليها جماعات تزعم التمدن فيما هي شكل بدائي من أشكال التخلف الفكري والعاطفي والاجتماعي والسياسي.
ومثلما خرجت أسراب الجراد من الجبال الواقعة شمال صنعاء ومرت على حقول المدينة، هبطت نوعية الجراد الجبلي ذاته على موسم عدن من الجبال الواقعة شمال عدن لتعيد عدن إلى كهوف التاريخ، مع ضرورة مراعاة أن الأماكن التي خرج منها الجراد هي- كذلك- ضحية للجراد لا جزءاً من هذا الجراد، ومع مراعاة أن أشياء كثيرة مشتركة بين جراد صنعاء وجراد عدن، وأن أبرز هذه المشتركات أن الأسراب كلها تنتمي إلى ثقافة التعصب القبلي وأعرافه، وإن رفعت شعارات الانتماء إلى الدولة وقوانينها.
المليشيات التي تحكم عدن اليوم هي ذاتها المليشيات التي تسيطر على صنعاء، مع فارق شكلي بسيط، فهذه المليشيات تتشدق بالديمقراطية، وتتحدث باسم المدينتين وكأن تلك المليشيات خارجة من قبة «برلمان وستمنستر»، لا كهوف الجبال الواقعة شمال المدينتين. وكما خرجت مليشيا صنعاء من بُطُون «الملازم» التي بعثت حروب صفين ووقعة كربلاء، زاعمة العودة إلى الدين الصحيح، الذي كان سائداً قبل عام 1962 في اليمن، حسب رؤيتها، خرجت مليشيا عدن أمس لتعتدي على شواهد قبور بريطانية قديمة تعود لعهد الاستعمار البريطاني، لطمس «معالم الكفر» الموجود على تلك الشواهد، ونصرة للإسلام.إن الذين اعتدوا على قبور البريطانيين في عدن يشبهون أولئك المنتمين إلى اليمين المتطرف في الغرب، والذين يحطمون شواهد قبور المسلمين، ويعلقون رؤوس الخنازير على أبواب مساجدهم.
وفي المحصلة: اليمن يتصحر عاطفياً وفكرياً وسياسياً ودينياً، وعوامل التعرية وصلت حد تمزيق «أواصر القربى» بين مكونات الشعب الدينية والاجتماعية، ولكن:
هل هذا هو المصير المحتوم؟
هل هي نهاية المطاف؟
قطعاً لا، لأن ما يخيل لنا أنه نهايات لا يعدو كونه بدايات جديدة، وما يزال تاريخ المنطقة ينعطف انعطافات مدهشة صوب وجهته الحقيقية التي لم تتكشف ملامحها بعد، وإن كان كل ما يجري يعد إرهاصاً للتجليات المقبلة.
ومع كل هذا الدمار المادي والروحي والقيمي الذي أصاب اليمنيين، إلا أنه في ما يبدو ضريبة لا بد منها لإنجاز عمليات التحول التاريخية، التي ستسقط الشعارات لا القضايا، والقشور لا اللباب، والوطنيات لا الأوطان، والأيديولوجيا الدينية لا الدين، وحركات التطرف لا الإسلام، أو للنقل باختصار إن ما سيسقط هو الألفاظ لا المعاني.
«فأما الزبد فيذهب جُفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض». صدق الله العظيم.