قبو صامت تتسلل منه رائحة رطوبة عفنة وحشرات صغيرة بأصوات منفرة تحاول ان تقتات من لحم جسد ملقى على أرضيته منذ شهور. لا ضوء في القبو سوى بضعة أشعة شجاعة تنفذ بصعوبة بعد تسللها من السجان الذي يقف امام بابه عبر فتحة صغيرة من السقف..
مد السجين اصابع يديه واستقبل تلك الاشعة مكافئاً شجاعتها بعناق حنون، اسند ظهره المحني للجدار القاسي خلفه " مازالت الحياة تهبه الكثير" !. تجاهل سلاسل قيوده الصدئة الزاعقة كساحرة تخرج رأسها من صفحات رواية رعب، وهمس للأشعة الهاربة : " لا تحزني ، لم يزر قبوي الندم، ولم أرتعش خوفاً من القادم !..
جل ما يوجعني وجعل من هذا القبو سجنا، هو شعوري بأن الوقت سرقني وداهمني على غفلة، واستكثرت علي النهايات اكمال قصتي!. لازلت احمل في قلبي هتاف معلق، وعلى لساني شجن وقصيدة غزل لم تكتمل احتاجت من الوقت اكثر مما منحته لي الحياة، فلم اصل لسيفي ولم اخرجه من غمده حتى الان، هذا كل ما في الامر ..
لم انتصر؟!، ما هو الانتصار حقا!!..
هل رفع السيوف وجز الاعناق دليل على نصر او اراقة لهزيمة؟، الحياة ليست بهذه البساطة، ليست قصص تروى للأطفال قبل نومهم، على الحياة تختلف الابعاد، وتسرد الاحداث بطريقة مغايرة لما نعتقد. فقاتلي اليوم هو مهزوم الغد، وعنقي التي ستطير بعد قليل، ستهوي به كمرساة ثقيلة نحو جحيم هزيمة بلا قرار، لست سوى خطوة صغيرة ستتبعها خطوات، وسيلقى حتفه في النهاية هذه هي حقائق هذا الوجود"..
ارتفعت ضجة في ساحة السجن، هتاف ساخن!، يبدو انها الجماهير وقد بدأت بالاحتشاد، وارتفع صراخها بشكل غير منظم. لم يكن يتوقع هتافا يحاول انقاذه ويطلب له الرحمة والعفو، لكن هتاف" يدعو للمجرم ان يطيل الله عمر اجرامه، ويدعو لحذائه ان تدوس على وجوه مريديه وعبّاده!!"، حز في قلب ثائرنا وأوجع اضلاعه، صراخهم المحموم اثقل عليه من القيود التي شدته للأرض منذ شهور. ماذا يصنع الجهل بالناس، يفقدهم ادميتهم، ويحولهم لمجرد قطعان هوجاء ثائره، لا تفقه غير عبادة الاصنام والاوثان!!..
" اهتفوا لصنمكم لحظة تناثر دمائي المتطايرة، فستاتي عليه المعاول وتجعله رمادا يذّر قريباً ".
صوت مزلاج القبو يتحرك، أضيئ القبو، ففرت الاشعة الهاربة من يد ثأئرنا واحتلته شمس قوية حجبت عنه الرؤية..
أطل ظٌل سجانه، بصوت ناهر أمر :" تحرك.. "، للحظات بقي ساكنا، ان يجر المرء للموت وهو مدرك لما ينتظره امر ثقيل، يشل العقل والقلب..
"اقتربت الساعة وانشق القمر "، رددها القلب الثائر الوجل مرات ومرات، وبداء جسده يشد بعضه بعضا مترفعا عن خوفه، وتحركت الاثقال الزاعقة معه وقام أخيرا، ارتقى جسده الخطوات السلالم الطويلة للباب المغلق عليه منذ شهور، وعبرها مستصغراً اياها بدون عد، وخرج للساحة المكتظة..
كما تخيل تماما، الجموع الهاتفة للقاتل مازالت تهتف، واشتد حماسها مع خطواته، يقبع قاتله بعمامته الثقيلة على مقعد وثير، اعد خصيصا لينعم برؤية دماء الثائرين ضده، وفي منتصف الساحة ينتظره جسد عاري الصدر بسيف يلمع تحت أشعة الشمس، ويتساقط لعابه من شدقيه كحيوان جائع يبحث عن طريدة " اهداء، فطريدتك أمامك"..
تجاهل الثائر صاحب المقعد الوثير، انها لحظاته الاخيرة ولن يلوثها بمنظره".
شعر بالنظرات حوله خناجر حادة تخترقه، لا يملكون قوت ليلتهم لكنهم اتوا ليهتفوا للحاكم المطلق ظل الله على الأرض..
" الدماء لا تشبع البطون الجائعة ليتكم تعلمون، لست عدو لكم ، أقف هنا لأني تمنيت إهداءكم حياة للبشر، بديلا عن حياة القطعان التي فرضت عليكم، أردت لكم الحياة، فتنادون للسياف ليسقيني الموت!!...
لا يهم!!، سأتسلق فوق الوحل الذي ران على قلوبكم وأشدكم نحوي، وحين ترون النور ستتخلصون من عبوديتكم، وقد أجد من أبنائكم من يترحم علي، ويقرا الفاتحة على قبري"..
الهتافات تطعنه خطواته والسياف يتأهب، وبدأ سجانه القديم فك سلاسل يديه، وانضم إليه آخر منحنياً لحل قيود أقدامه بيديه مرتعشتين وهو يحاول أن لا يجرح الأقدام المتعبة!!..
تناسى الثائر الموت المقترب وجماهيره المتهافتة المترقبة، وأبقى عينيه على الرأس المنحنى، أزيحت القيود ورفع السجان الجديد رأسه، مازال فتى صغيراً، لمح الثائر المقدم على الموت في عيني سجانه الفتّي ظلال دمع محجوب وأسى!!، السجان الصغير يبكي فراقه!!.
لم تكن مجرد دموع رثائية، فقد لمح ثورة وليدة تنتظر سن بلوغها، فمن اقدر منه على تمييز قلب ثائر!..
تبسم للفتى الممسك بالقيد ابتسامة تعثرت لها أقدامه الصغيرة وانتفض على إثرها قلبه الوجل، توقف الزمن للحظات ليبث في الصغير روح جديدة!!..
تحركت خطوات الثائر فحركت المشهد ثانية، وبكل فخر توجه نحو سيافه وأحنى رقبته في انتظار ارتقائه..
طارت الرقبة، وخفتت الهتافات وتوارت خجلا مع نافورة الدماء الساخنة..
اهتز الكرسي الوثير تحت (العمامة) المتوجة عليه وارتجفت روحه مع ضربات السيف واضعة أناملها على أسنانها خوفا ورعباً، وهي تسمع وعد جهوري للزمن بمصير منصف!!..
وقبل ان تغادر روح الثائر ساحة الإعدام ، مرت على قلب السجان الصغير محتضنة له ومقبلة جبينه بحنو اب مغادر لسفر بعيد..
ولوحت له مودعة..