نحن بإزاء أمة يقظة، كاملة الحضور. هذا ما يتبادر إلى ذهني وأنا أتابع موضوع "سائق التاكسي يمثلني". بدأت القصة عندما نشرت فتاة هاشمية ـ هاشمية تعني: من الأسرة الملكية الحاكمة ـ موضوعاً، بالاشتراك مع والدتها، عن كيف أهدرتا حياة سائق تاكسي لمجرد احتجاج الرجل على الوضع الاقتصادي في العاصمة السابقة، صنعاء.
في نهاية المطاف قالت الأم إنهما أخطأتا عندما تركتا الرجل يذهب. وكانت البنت قد تركت رقم سيارة الرجل على فيس بوك، وحرضت "أنصار الله" على قتله. قالت الأم في تعليق "الأهم أن يجعلوا منه عبرة للآخرين.
فر سائق التاكسي إلى مأرب، كما أكد لي دبلوماسي مأربي.
باختصار: نحن أمام أميرة من أميرات الأسرة الحاكمة، استقلت سيارة تاكسي وكادت، بسلاح الكلاشنكوف، أن تقتل السائق. ولأنه نجا فقد دعت باقي أمراء الأسرة إلى البحث عنه وقتله في العاصمة.
يمكن صياغة القصة هكذا، وانظروا كم هي مخيفة ومرعبة.
أنا، مثلاً، قمت بتبسيط المسألة، وقلت أنها ناتجة عن دوافع اكتئابية للأميرة الصغيرة، ربما بسبب حرمانها من ارتباطات عاطفية. هذه مجرد محاولة علمية بائسة، لا علاقة لها بالحقيقة، ربما. فنحن أمام أمراء وأميرات جدد مستعدين لإزهاق أرواح شعبهم لأتفه الأسباب.
الأميرة ندى الوزان، من أميرات الأسرة المالكة، كادت تقتل سائق التاكسي. هذه جريمة مخيفة، بسبب رمزيتها، كونه يمنياً بسيطاً قال قولاً حول السياسة، وكونها أميرة حاكمة!
فبخلاف كون الموضوع مخيف، هو أيضاً شيق. هناك مساحة كبيرة للتأويل الجنسي الفرويدي، أو للكومييتراجيدي الجنسية. أميرة حاكمة تحاول قتل سائق تاكسي، هذه قصة بالنسبة لأي كاتب سيناريو، رواية، أو فيلم سينمائي .. غزيرة ومليئة بالإيحاء. لا أعتقد سوى أن أي مخرج كلاسيكي سينهي القصة كالتالي: سائق التاكسي والأميرة يتزاغطان في الخلاء وهي تقول وهو يقول، وسيكون ثمة قدر عال ومكثف من التراجيديا والكوميدي معاً. ليس بالنسبة للفنان وحسب، بل للإنسان العادي، ذلك الذي يتسلى بمواضيع الأميرات على مر العصور.
في المعركة الأولى مع الحوثيين، المعركة التي خاضها الشعب اليمني في شمال اليمن إلى جوار الجيش المصري، كان الأدب حاضراً في المعركة، وكتبت آلاف القصائد الشعرية التي تحط من قدر "السلالية"، وتحرض عليها. بلغ الأمر حد لجوء روائي يمني شهير إلى استخدام لغة أيروسية في الحديث عن الأميرات الهاشميات. في "الرهينة" قرأ اليمنيون عن أميرات الأسرة الحاكمة وهن يزاغطن طفلا في الرابعة عشر من عمره، ويتحرشن به جنسياً ويشهقن من الحرمان في ليالي قصر الملك.
نحن بإزاء أمة يقظة، وحاضرة. اللغة الجنسية التي ملأت الفيس بوك لا أرى فيها، شخصياً، أي مشكلة. لدى كل الأمم المقهورة ميل طبيعي، وأخلاقي، لتسوية الحساب مع الحاكم عن طريق النكتة والتعليق الجنسي، عن طريق الشتيمة أيضاً. كان المسيري قد أجرى بحثاً طويلاً حول ذلك النوع من النكتة باعتباره احتجاجاً سياسياً، لكنه توفي قبل أن ينجز عمله.
في العادة يتداول الرجال التعليقات الجنسية حول أميرات الأسرة الحاكمة، في جلساتهم. يمثل فيس بوك أكبر دكة، مصطبة، عصرية. تغير شكل الدكة لا يغير في الطبيعة الأخلاقية للفعل.
قبل ثلاثة أعوام كتبت التماساً إلى الهاشميين، وكانوا حتى ذلك الحين مواطنين يمنيين. قلت لهم: اكتبوا بياناً حددوا فيه موقفكم من الميليشيات الدينية الحوثية. تدفقت التعليقات الساخرة والناقدة، وقيل يومئذ إن لغتي طائفية. لم يمض وقت طويل حتى كانت الميليشيات تسطو على البلد وتحول ٢٥ مليون إلى مواطنين تحت الإقامة الجبرية. قفزت الأسر الهاشمية، كلها على بكرة أبيها وقدمت نفسها بوصفها: أمراء وأميرات السلالة الحاكمة. لا يوجد استثناء واحد، لا استثناء واحد. الحالات الشاردة، لسبب أو لآخر، تؤكد القاعدة.
لنقف أمام المشهد كما فعلت طليعة التحرير الأولى: ندى الوزان هي واحدة من أميرات الأسرة الحاكمة. خرجت الأميرة إلى الشارع، وأوشكت أن تقتل سائق تاكسي لأنه قال تعليقاً ساخراً على الطريقة التي تدير بها أسرتها البلد. هنا نهضت القصة، بكل مأساويتها ولذتها، نشأت على هامش الأجساد والوطن معاً.
بينما كانت نكات اليمنيين الجنسية ـ وهي مسألة عادية، بالنظر إلى أن الجنس فعل يومي اعتيادي مثل الرياح والكلام ـ تتدفق، كان الحوثيون يصدرون قرارين لعسكريين "هاشميين"، صار بموجبه هذان الهاشميان قائدين لمنطقتين عسكريتين كاملتين. مرة أخرى: يملك عبد الملك الحوثي يمن الشمال، ٣٠٪ من الأرض و٧٠٪ من السكان. هو، إذن الملك. بالهاشميين يدير مملكته، وهم أمراء السلالة الحاكمة. ندى الوزان واحدة من أميرة الأسرة المالكة/ الحاكمةـ خرجت وكادت تقتل سائق تاكسي.
خرج رجال وقورون وقالوا: هذه نازية مخيفة، نحن بصدد جماعة من الناس مستعدة لتلحق كل الأذى بشعبنا. جيل الفيس بوك أعلن احتجاجه بطريقة مختلفة: لم تكن الفتاة تفكر بقتله بل بممارسة الجنس معه. ولامه بعضهم السائق على طريقة كازنتزاكس: لماذا تركتها وحيدة، ألا تعلم أن النار أعدت لرجل دعته امرأة إلى سريرها فأبى.
بالنسبة للحياة كما أتصورها، للحياة كما ألمسها، لا أجد أي مشكلة في أن يصدر شعب من الشعوب عشرة مليون نكتة جنسية حول واحدة من أميرات الأسرة الحاكمة لأنها أرادت أن تقتل سائق تاكسي.
كيف سيحتج إذن؟ كيف سيقول الشعب إنه هناك، وأنه يتحدى، وأنه لن يقف مكتوف الأيدي، وأنه يراقب ويعي.
تجري الأمور على هذا النحو: ما هي أغلى ممتلكات الأسرة الحاكمة ؟ حسناً، يبدو أن "شرف البنت" هو أكثر ما تخشى عليه الأسرة المالكة، وما يوجعها أكثر. لنسكع الحاكم إذن في تلك النقطة، لنخز شرف البنت حتى يتوجع الملك.
هذه طريقة تفكير بسيطة وآلية، وهي تاريخية وليست محصورة في شعب من الشعوب.
نشأت النكتة المصرية في ظروف مشابهة عندما وقع المصريون تحت حكم عشرين أسرة فرعونية متتالية. كانت النكتة الجنسية والتعليق الجنسي الاحتجاجي، بالنسبة للمطعلين على التاريخ، فاتحة المواقف الشعبية الاحتجاجية تاريخياً. رأى أحمد عكاشة، عالم الطب النفسي الشهير، مثل ذلك الموقف دليلاً على أن الشخصية الجماعية المصرية هي passive aggressive، أو سلبية عدوانية. فهي شخصية تخشى المواجهة، لكنها تذهب إلى الظل وتقول كلاماً جنسياً عن الحاكم وأهل بيته.
لنتذكر: ندى الوزان ليست فتاة يمنية خرجت إلى السوق، بل واحدة من أميرات الأسرة الحاكمة.
أقول هذا الكلام كتوضيح، لا أكثر.
نهاركم سعيد.
شدوا حيلكم يا شباب، إذا لم ترتجف سيقان الأسرة الحاكمة من حضوركم فقد خسرتم المعركة. دعوهم يروا لون الشر في عيونكم، الشر الذي يخرج من بئر ليس له قرار، كما فعلت مئات الشعوب من قبلكم.
فلسنا بصدد مسألة فنية. نحن أمام أكبر كارثة شاملة يمكن أن تحل بأمة من الأمم..
إن أكبر خطأ أخلاقي سيرتكبه الشعب هو أن يسمح لنفسه بخسارة المعركة.
ولا يحب الله الجهر بالسوء من القول .. إلا من ظُلِم.