مرّت ذكرى الثلاثين من نوفمبر على جنوب اليمن هادئة مختلفة كثيراً عن كلّ سابقاتها هذه المرّة.
كانت ذكرى طرد آخر جندي بريطاني من جنوب اليمن عام 1963 ولا تزال من أهم المناسبات لدى الحراك الجنوبي الذي تأسّس عام 2007 بعد إحالة آلاف العسكريين والمدنيين الجنوبيين إلى التقاعد على خلفية ما اعتبرته السلطة حينها تأييدا للانفصال، لكنّها بدت اليوم مفرغة من المطالب المعتادة كلّ عام، من قبيل الانفصال وتقرير المصير والمطالبة بطرد "المحتل الشمالي".
قبل ذكرى عيد الجلاء هذه، مرّت ذكرى ثورة إكتوبر، وقبلها ذكرى حرب صيف 94، وكانتا مفرغتين من المطالب الانفصالية رغم أهمية المناسبتين بالنسبة للشارع الجنوبي.
صحيح أنّ الاحتفال بالثلاثين من نوفمبر الذي أقيم، أخيراً، في عدن رفع فيه العلم الجنوبي، لكن ذلك ليس بالشيء الكبير بالنظر إلى ما كان قد مارسه الجنوبيون، حيث وصل أحياناً إلى حدّ تهجير الشماليين من المحافظات الجنوبية.
لم يمرّ وقت كالذي نعيشه، تهيّأت فيه للجنوبيين كلّ عوامل تقرير المصير وإقامة الدولة وبمباركة قطاع واسع من الشارع الشمالي وتعاطف خارجي أيضاً، لكن ذلك لم يتم لعدّة أسباب، يتعلق بعضها بالدعم الخارجي، وتتركز أغلبها بجسم الحراك نفسه، وتتماشى بعضها مع التغييرات التي أوجدت عدّة مكاسب للجنوبيين.
التحالف الذي حرّر عدن وعدّة محافظات جنوبية قبل أكثر من عام ليس متحمّساً فيما يبدو لإقامة دولة جنوبية، تضاعف من مشكلات اليمن وشرعيته التي قال إنّه لأجلها جاء، وهو غير متسرّع في تقرير مصير شعب غير جاهز تماماً لإقامة تلك الدولة.
لم يعد الحراك الحامل لقضية تقرير المصير واحداً، وليست هنا كلّ المشكلة، بل لم يعد الهدف واحداً لدى تلك الفصائل الحراكية، والواضح أنّ عوامل الاتفاق بين تلك الفصائل أقلّ بكثير من عوامل الفرقة.
بعد تدخل التحالف العربي في اليمن، في 26 من مارس/ آذار 2015 اتضح جلياً أنّ الحراك ليس منقسما فقط، بل ومخترقاً من قوى النفوذ الإقليمية وحتى الداخلية على اختلافها.
لم يظهر الحراك منقسماً بين حلف السعودية وإيران البعيدتين مشروعاً ورؤية للحل فقط، بل ظهر منقسماً في تحالفاته الداخلية حتى مع المتهمين بنهب الجنوب وإفراغ الوحدة اليمنية من مضمونها التي قامت عليه عام 90.
في الجنوب تبرز مشكلة القضية في تعدّد قياداتها وكثرتهم جداً لذا سهل استمالة أكثرهم وحرفهم عن الهدف الرئيس بمنصب أحيانا أو مال أحيانا أخرى، ولذلك توّزعت قياداته بين مسؤولين في شرعية هادي وسلطة الأمر الواقع في صنعاء.
بقي الشارع وحده مع مجموعةٍ غير مؤثرة كثيراً من القيادات، مؤمناً بالهدف المعلن، وهو تقرير المصير دون سواه، لكن الخطوة التي أقدم عليها الرئيس عبد ربه منصور هادي تعيين قيادات حراكية على رأس السلطة في محافظتي عدن ولحج تحديداً،امتصت كثيراً من حماسهم، بل وخرج الشارع نفسه المطالب بالانفصال بمظاهرة حاشدة لأول مرّة، تؤيد الرئيس هادي، وترفض خطة المبعوث الأممي، إسماعيل ولد الشيخ، التي تطالب بعزله بعد أشهر من الاتفاق على تسوية سياسية.
لم يعد الحديث اليوم عن عدالة القضية، ولا الجدل حول مظلومية الجنوب من عدمه، إذ اقتنع كثيرون بأنّها أكثر القضايا الموجودة عدالة، وبالتالي، أحقها مطالبة بالحلّ بل أصبح الحديث حول إمكانية حلها، وفقاً لتطلعات الشارع المؤمن بضعف قياداته أو عدم جديتها في تبني خطاب الشارع بعد أن كان القادة هم من رفعوا أولا تلك الشعارات.
لا يعني تقرير المصير بالضرورة انفصالاً أو وحدة، إذ لا أحد يستطيع التكهن بتقلبات الشارع، وشخصياً ومعي شماليون كثيرون لسنا ضد تقرير مصير الجنوبيين، على الرغم من ارتباطنا جداً بالجنوب وأهله. وفي أسوأ الأحوال، سيكون الانفصال وبناء دولة مؤسسات دافعاً لنا في الشمال لإقامة دولة مؤسسات أيضاً. ولكن، بالنظر لعدم جاهزية المشرع الجنوبي لخطوة كبيرة كهذه، يمكن القول الآن إنّ أنسب الحلول وأكثرها إنصافاً هي تمكين الجنوبيين من حكم أنفسهم. ولكن، ليس من خلال دولة مستقلة، بل من خلال تثبيت يمن اتحادي من إقليمين أو أكثر، وهو الأمر الذي أقرّه مؤتمر الحوار الوطني ورفضته حينها فصائل عديدة في الحراك وقادتها.