الشعوب العربية، كما هم سائر البشر، تكره الحرب وتنزع نحو السلام. فالنزاعات لا تحدثها الشعوب مهما اختلفت ثقافاتها او مشاعرها. هذه الشعوب رفضت العدوان الثلاثي على مصر في مثل هذه الايام قبل ستين عاما 1956، وخرجت في مظاهرات واسعة من شرق العالم العربي إلى غربه.
يومها كانت البحرين في ذروة انتفاضة شعبية عارمة بقيادة «هيئة الاتحاد الوطني» التي كانت تمثل قطاعات الشعب كافة، فتدخلت القوات البريطانية بشكل مباشر لقمعها واعتقال قادتها. ثم قامت بنفي بعضهم إلى جزيرة «سانت هيلانة» بالمحيط الاطلسي. وحين شن العدو الاسرائيلي حربه على الدول العربية في 1967 انتفضت الشعوب العربية وعمت عواصم المنطقة مظاهرات واسعة استمرت حتى ما بعد نهاية العدوان. ورفضت الاجتياح الاسرائيلي للبنان في 1982، وخرجت محتجة في الشوارع ضد حصار بيروت الذي استمر اكثر من ثلاثة شهور، حتى اجبرت القوات الفلسطينية وزعيمها المرحوم ياسر عرفات، على الخروج إلى تونس. واعقب ذلك مجزرة صبرا وشاتيلا التي قامت بها مجموعات مسيحية بدعم اسرائيلي مباشر. ورفضت هذه الشعوب الحرب في الكويت بعد الغزو العراقي في 1990، وخرجت الاحتجاجات والتظاهرات في الكثير من العواصم العربية رافضة ما كان يسمى آنذاك «التدخل الاجنبي» لاخراج القوات العراقية من الكويت. كانت هذه هي مشاعر العرب الجياشة ضد الحرب. كما كانت مشاعر الاخوة والتقارب والوحدة تدفع كافة الشعوب للتضامن مع بعضها حين تتعرض للحرب والعدوان.
ولكن حين قررت أمريكا وحلفاؤها الحرب على العراق لاسقاط نظام صدام حسين، خرجت الاحتجاجات، ليس في العواصم العربية، بل في العواصم الاخرى. ولم تخرج احتجاجات تذكر في العواصم العربية. كان ذلك مؤشرا لتغير في النفسية والثقافة، وهو تغير فرض بكافة الوسائل غير الشريفة. وحين اشتعلت الحروب في مرحلة ما بعد الربيع العربي، اصبح واضحا غياب روح التضامن، وتكلست المشاعر، فلم تظهر الاحتجاجات التي كانت تعبر عن وعي واحساس وتضامن وايمان. اليوم تندلع الحروب المدمرة في العالم العربي: العراق وسوريا وليبيا واليمن، في غياب الحضور الشعبي الذي تلاشى قبل ربع قرن تقريبا. ومن يدرس هذه الظاهرة سوف يكتشف ان ما تعرضت له الشعوب من هندسة فكرية واخلاقية خلال تلك الحقبة كان له اثر مباشر على كسر المعنويات واضعاف المشاعر واطفاء شعلة العاطفة والاحساس. فبدلا من قيام وساطات عربية وإسلامية بين الفرقاء لاخماد الفتن، اصبحت النخبة طرفا في الصراعات الدائرة التي لا يمكن ان تحسم الخلافات التي ادت لها. هذه المرة لم يقتصر تاثير سياسات «قوى الثورة المضادة» على الرأي العام فحسب، بل ان النخب نفسها، إسلامية او ليبرالية، ضحية لتلك الاساليب والسياسات، واصبحت تحرض على العنف والحرب بتجيير المقولات الدينية لاضفاء الشرعية على النزاعات الدموية التي تتوسع كل يوم. والضحية هنا لا تنحصر هنا باموال الامة التي تهدر بالمليارات على صفقات السلاح وخدمات الدعم اللوجستي والعسكري، بل بدماء شبابها الذي تحول إلى حمامات دم تتوسع يوميا، ومن الضحايا ايضا الانتماء والعلاقات ووشائج الدين والثقافة، والتنمية المتواضعة التي حدثت بعد اكتشاف النفط.
واذا كانت الحرب السورية وما احدثته من دمار على كافة الأصعدة الإنسانية والمادية قد فرضت نفسها على العالم، نظرا للتركيز الإعلامي الغربي والعربي عليها، فان حربا اخرى يشتعل اوارها في المنطقة منذ قرابة العشرين شهرا، ما تزال منسية من الكثيرين. فقوى الثورة المضادة لها مصالح واسعة في الوضع السوري التي اصبحت تدار بالوكالة. وما دام الشعب السوري هو الذي يدفع الثمن وما دامت هذه الحرب سبيلا لاستنزاف طاقات الامة وحائلا دون توحدها وتوجيه طاقاتها للتنمية وبناء الشعوب ومكافحة الاحتلال والتخلف فلماذا تتوقف؟ اما حرب اليمن، فقد اذكيت نيرانها لمنع استقرار اوضاع المنطقة من جهة ولكي تبقى مصدرا لاستنزاف اموال الدول المشاركة فيها ثانيا، ومنع اي تقارب بين ابناء الامة الواحدة ثالثا، واشغال الرأي العام عن القضايا الجوهرية للامة وفي مقدمتها الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين رابعا، وخلق استقطابات سياسية ودينية ومذهبية خامسا، وتلبية نزوات بعض الحكام الطامعين في التوسع وفرض النفوذ سادسا. وبغض النظر عن دوافع الحرب وظروفها ومآلاتها، فان الجانب الانساني منها قد فضح عالم القرن الحادي والعشرين برمته. فهل من المعقول ان يعيش عربي مسلم في بلد محاط باموال النفط الهائلة وقد تحول هيكلا عظميا بائسا؟ كيف يسمح البشر لانفسهم بتجويع الآخرين وتحويلهم إلى اشباح قد تتحرك قليلا قبل ان تتحول إلى جثث هامدة؟ وكما يقال فان الصورة تحكي اكثر من الكتاب. فقبل اربعة عشر شهرا نشرت وسائل الإعلام صورة الجثة الهامدة للطفل الكردي – السوري «أيلان» ميتا على احد الشواطئ التركية، الامر الذي هز ضمير العالم، وكان ذلك سببا لفتح بعض دول اوروبا ابوابها للاجئين. تلك الصورة اعتبرت شاهدا على التقصير الانساني عن رفع معاناة الضحايا الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا. وكانت صورة الطفل السوري، عمران دقنيش، الذي اخرج من انقاض منزله بمدينة حلب بعد ان دمرته الطائرات سببا لاثارة المشاعر وتحريك الضمائر والضغط على الفرقاء لانهاء الازمة السورية. ولا شك ان هناك المئات والآلاف من الاطفال السوريين والعراقيين والليبيين يتعرضون لهذا المآل يوميا. ومن المؤكد ان من اطفال اليمن ما بلغ مستوى أسوأ من ذلك. فلو غفلت قوى الثورة المضادة التي تدير هذه الصراعات وتغذي الازمات والحروب، واستطاعت وسائل الإعلام الوصول إلى المناطق اليمنية التي تتعرض يوميا للقصف الجوي، لاكتشفت اطفالا في شكل اشباح. اطفال اليمن سوف يكونون اكثر تحديا للضمير البشري، لأنهم سيكونون هياكل عظمية بسبب الجوع الناجم عن الحصار المحكم على كافة منافذ بلادهم. والاكثر احتمالا انهم لن يكونوا على قيد الحياة بعد ان فقدوا مستزماتها الجسدية. فقواهم الخائرة لا تقوى على تحمل المزيد من الصدمات التي يحدثها تدمير منازلهم بالطائرات والقنابل.
تعتبر منظمة الصحة العالمية أن مستوى الطوارئ المحدد للوضع الغذائي في العالم 15٪ بينما وصلت المعدلات في بعض محافظات اليمن كما في محافظتي تعز والحديدة إلى 25٪ و31٪ على التوالي. فقد أدت الحرب إلى توقف النشاط الاقتصادي في البلاد، إضافة إلى توقف كامل لعائدات النفط التي كانت تغطي نحو 70٪ من ميزانية الدولة؛ ما أدى إلى ضعف توليد الكهرباء وشح الوقود وإغلاق العديد من المصانع الكبيرة والصغيرة. أدى ذلك إلى خسارة مئات الآلاف من العمال لأعمالهم وخروج الشركات الأجنية والمنظمات الدولية من اليمن وسحب أموالها أو تعليق أعمالها لأجل غير محدد. تقدر تقارير الأمم المتحدة أن عدد العاجزين عن تلبية احتياجاتهم الغذائية بــ 14.4 مليون نسمة بما في ذلك 7.6 مليون يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد. وتشهد المدن اليمنية وضعًا إنسانيًا صعبًا وتدهورًا في الوضع الصحي وصعوبات تحول دون وصول المنظمات الدولية إلى مناطق النزاع المسلح، فالمجاعة تحاصر الأطفال، إذ إن هناك أطفالا مصابين بسوء التغذية الحاد ومعرضين لخطر الموت أكثر بعشر مرات من أقرانهم الأصحاء في حال عدم علاجهم في الوقت المناسب بسبب ضعف المناعة لديهم. تقول ارقام المنظمات العاملة في اليمن لمكافحة سوء التغذية أن هناك 3 ملايين شخص يحتاجون لمساعدات غذائية عاجلة منهم 2.1 مليون يعانون من سوء تغذية حاد في الوقت الحالي، وهذا يمثل زيادة بنسبة 65٪ في الأشخاص المحتاجين مقارنة بأواخر عام 2014 حسب تقرير للأمم المتحدة. ويؤكد المتحدث باسم منظمة الطفولة التابعة للأمم المتحدة «يونيسيف» في صنعاء أن الوضع الغذائي للأطفال باليمن يزداد سوءًا يومًا بعد يوم، فهناك نحو مليون ونصف من الأطفال تحت سن الخامسة يعانون من سوء التغذية وأكثر من ربعهم يعانون من سوء تغذية حاد وهو الهزال الشديد الذي يؤدي للوفاة في حال عدم علاجه.