هناك حقيقة لا يجب أن يتجاهلها أحد وهي أن المملكة العربية السعودية ومن ورائها التحالف يفرضون سيطرة حقيقية على الأوضاع في اليمن، ويكفي أن نشير إلى أن الانقلابيين يواجهون حتى اللحظة مشكلة في إعادة وفدهم التفاوضي إلى صنعاء، ومع ذلك لا تمل أمريكا السعي إلى تمكين الأقلية وفق تعبير وزير الخارجية كيري والمضي في هندسة الأولويات ليصبح تخفيف الضغط العسكري على الحوثيين هو الأولوية الأولى لواشنطن.
وهناك حقيقة إضافية، تتعلق بالأوراق القوية التي يمتلكها التحالف والسلطة الشرعية، أقواها الإرادة الحديدية للمقاتلين في الميدان الذين يتقدمون كل يوم صوب صنعاء ويحققون إنجازات كبيرة رغم الأسلوب المحبط الذي يعتمده التحالف في دعم الجبهات.
ولأن الوضع كذلك، فإن الانقلابيين يصرفون جزء كبيراً من مجهود الحرب هذه الأيام للضغط على السعودية عبر تصعيد المواجهات على الحدود ولكن بتكلفة عالية للغاية على المستوى البشري، مع سقوط العشرات يومياً في معارك تبدو عبثية، أما المجهود المتبقي فيصرفونه لإيقاع الأذى باليمنيين عبر محاصرة المدن وقصف الأحياء والتجمعات السكانية، والقتل اليومي الممنهج.
وكان لافتاً أن المملكة تقدمت قبل يومين بشكوى إلى مجلس الأمن بخصوص استمرار التدخل الإيراني عبر تهريب السلاح إلى اليمن. وبقدر ما تمثل هذه الشكوى خطوة ذكية من طرف المملكة لأنها توصف الحالة بشكل جيد وتلقي الضوء على محارب مثابر على الساحة اليمنية هو إيران، فإنها من زاوية أخرى تحمل نُذرَ مواجهةٍ شاملةٍ بين المملكة وإيران قد تقع في أية لحظة، على خلفية الحرب الدائرة في اليمن وفي سورية، خصوصاً أن إيران تدفع باتجاه تصعيد المواجهة مع الوهابية، وحشر نفسها في ما تعتقدُ أنه توجهٌ لإدانة العقيدة الوهابية باعتبارها الأصل الفكري والعقدي للتنظيمات السنية المتطرفة التي تقاتل في العراق وسورية وفي اليمن أيضاً.
قبل نحو ثلاثة أسابيع أعلن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري عن منهجية جديدة في حل الأزمة اليمنية، وهذه المنهجية لم تكن سوى تراجع عما تم الاتفاق عليه في اجتماع لندن الرباعي الذي عقد قبل نحو شهرين، على مستوى وزراء الخارجية وضم أمريكا وبريطانيا والسعودية والإمارات.
وإذا كان الوزير كيري قد تحدث عن هذه المنهجية بحضور وزير الخارجية السعودي عادل الجبير وفي ختام اجتماع للوزير كيري مع نظرائه الخليجيين، فإن ما تسرب عن مضمون اللقاء الذي أجراه وكيل وزارة الخارجية الأمريكي للشؤون السياسية، توماس شانون في مسقط مع وفد الانقلابيين، يشير إلى أن الحديث بات يتعلق بخطة شاملة لوقف إطلاق النار.
إنه اللعب بالمفردات إذا جاز التعبير، ولكنه ينطوي على خطورة، لأن الأمر في اليمن لا يتوقف على تدخل التحالف العربي وعلى نشاط الطيران في الأجواء اليمنية، بل بأساس المشكلة وهو الانقلاب.
ولا يجب أبداً أن نغفل دلالة أن يتولى مسؤول رفيع في الخارجية الأمريكية بحجم شانون مهمة إحياء مبادرة كيري والدفع بها قدماً، في ظل كل الغموض الذي لا يزال يحيط بهذه المبادرة والتسريبات المثيرة للإحباط بشأنها.
وما هو واضح أن واشنطن تكرس نفسها كوسيط بين طرفين أساسيين في الأزمة اليمنية وهما التحالف العربي وتحالف الانقلاب، دون التفات للطرف الأساسي وهو الشعب اليمني، الذي يقف ضد الانقلاب ويريد استعادة دولته، وهو الذي اضطرته الظروف ليخرج إلى ساحات القتال ويقدم الغالي والنفيس لهذه الغاية.
وأمريكا في الوقت نفسه تفقد شروط النزاهة التي ينبغي أن يتمتع بها الوسيط، ولهذا نراها تقوم بإعادة هندسة للأولويات في اليمن، ليتضح أن الهدف بات يتعلق بوقف لإطلاق النار يرفع الضغط العسكري على المتمردين الانقلابيين، لكنه لا يحقق أي نتيجة ملموسة على صعيد التقدم نحو الحل الشامل للأزمة في اليمن.
لا تظهر واشنطن أي حساسية تجاه استمرار نشاط تهريب السلاح للحوثيين رغم أنها بحريتها أوقفت قوارب تهريب تحمل أسلحة إيرانية مصدرة إلى اليمن، وربما غضت الطرف عن قوارب أخرى ومثلها البحرية الفرنسية كذلك.
وما يبدو أنه شائعات بشأن التوجه نحو محاصصة سياسية تمنح ثلثي السلطة للانقلابيين، يبدو أنه يتجه ليصير حقيقة، وتجري التهيئة للقبول بها، وهي حقيقة مرة إن قبلت بها السعودية، فإن موازين القوى ستتغير بالفعل لصالح الانقلابيين، لكن الخاسر الأكبر الذي سيواجه تبعات تسوية خطيرة كهذه في المستقبل القريب هو المملكة العربية السعودية.
المنهجية الجديدة التي بشَّرَ بها كيري، تنطوي على شرور كثيرة، وتفتقد إلى الأخلاق، وتستقطب شركاء سيئين للغاية، وتستثمر النوايا الخبيثة لبعض المعنيين بالأزمة اليمنية ومنهم قوى في التحالف العربي نفسه، ولهذا يتعين على المملكة أن تُعيد النظر في أساليب المواجهة مع هذه المخاطر، عبر إعادة هندسة مماثلة للشركاء في هذه المواجهة، ويتعين عليها منذ الآن أن تضخ ما يكفي من الأمل والثقة في أوساط الذين يقاتلون تحت سقف الأهداف التي حددها التحالف العربي منذ تدخله على خط الأزمة اليمنية، وهي: استعادة الدولة ومواصلة الانتقال السياسي بما يحقق الصيغة الاتحادية للدولة متعددة الأقاليم والعيش المشترك، والشراكة الإقليمية الكاملة.
*عربي 21