عبدالواسع الفاتكي
تمثل الدولة في المجتمعات ، التي أخذت طريقها نحو التطور والاستقرار ، جهازا سياسيا قانونيا ، ينظم تلك المجتمعات ، ويضبط إيقاع صراعاتها السياسية ، بين قواها الاجتماعية والسياسية المختلفة ، بصورة حضارية وبأدوات قانونية ، بيد أن الدولة في اليمن ، كانت ومازالت هي التي يدور حولها الصراع السياسي ، وهي ذاتها التي ابتلعتها سلطة الأقلية العصبوية؛ بتحالفها مع القبيلة والعسكر ؛ لتتحكم في الثروة والقوة ؛ لتسير الشعب اليمني ، وفقا لمصلحة اللوبي المسيطر على مفاصل السلطة ، كما أنها سعت جاهدة ؛ للحيلولة دون انتقال اليمن ، من الدولة العسكرية القبلية الشمولية ، الخاضعة لسيطرة الفرد والأسرة والمنطقة ، إلى دولة المواطنة والديمقراطية التعددية ، دولة لكل مواطنيها اليمنيين في الشمال والجنوب ، لكنا للأسف الشديد ، نجد أنفسنا اليوم ، عائدين للمربع الأول ، الذي ناضلت من أجله القوى السياسية والاجتماعية الوطنية ، منذ خمسينيات وستينيات القرن المنصرم ، المتعلق بقضية بناء الدولة اليمنية المؤسسية الحديثة ، وليس هذا فحسب ، فآمال اليمنيين في الخروج من دائرة التشرذم والتمزق ، للوحدة والشراكة ، ومن التخلف والحروب العبثية ، للتنمية والاستقرار ، ذهبت أدراج الرياح ، ويعزو ذلك لاستبدال الأقلية المغتصبة للحكم الدولة بذاتها ، واختزالها بجيش وأمن ، يخدمان مصالحها ، ويقمعان المعارضين السياسيين ، قاصرة دور الدولة في القهر خارج الدستور والقانون ، وضاربة عرض الحائط ، بوظائف الدولة المتسقة مع المفهوم السياسي الحديث لها ، المتعلقة بدعم أسس الاستقرار السياسي والاجتماعي ، وبالحفاظ على النظام العام ، وتماسك المجتمع ، ووسيلتها في ذلك ضرب التكوينات الاجتماعية والسياسية الوطنية ، وإثارة الهويات اللاوطنية ؛ لتستقوي بها على المشاريع السياسية للدولة الديمقراطية المنشودة.
تجلت صورة الحكم العصبوي في اليمن ، منذ تولي المخلوع علي عبدالله صالح السلطة ، عام 1978 م ، وحتى تحالفه مع الحوثيين ، والقيام بانقلاب 21 سبتمبر 2014 م ، وجر اليمن لأتون حرب أهلية ، وتدخل عسكري خارجي ، في هيمنة الفرد والأسرة والعشيرة على الدولة ، والنيابة عنها في الخطاب والممارسة ، وتسخير مؤسساتها ومواردها ، في تحشيد المليشيات القبلية والمناطقية ، في حروب داخلية ، صبغت بصبغة جهوية ، تستنفر قبائل شمال الشمال على الدوام ، بدءا من حرب 1994م ، مرورا بحروب صعدة الستة ، وصولا لحرب الانقلاب على المبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني ، الأمر الذي أنتج سياسات معادية لمصالح الشعب اليمني ، وواقعا استبداديا تسلطيا ، جعل الدولة في حالة تنازع بين العسكر والقبيلة ، وحين صعد المخلوع علي عبدالله صالح لسدة الحكم ، كان تعليمه محدودا ، ولم يكن من خريجي الكليات العسكرية ، أو منتميا لقوى الحداثة من الضباط العسكريين ، كالشهيد المرحوم إبراهيم محمد الحمدي ، والذين أرادوا بناء دولة ، قد لا تكن ديمقراطية ، لكنها تستحوذ على القوة ، وتحتكر استخدامها ، فيما مشائخ القبائل ، الذين دخلوا في صراع معهم ، أرادوا بقاء الدولة قبلية ، يستطيعون من خلالها النفاذ إليها ، وتحقيق مصالحهم والحفاظ عليها ، ولأن المخلوع علي عبدالله صالح ، لم يكن يمثل طموح النخبة العسكرية ، التي واجهت النخبة القبلية ، فقد أنشأ نظاما طبقيا حاكما ، مركبا من كبار الضباط العائليين ، المنتمين لمنطقة جغرافية واحدة ، وكبار مشائخ القبائل المنتمين لذات المنطقة الجغرافية ، والذين منحهم المخلوع علي عبدالله صالح ، وسائل القوة والنفوذ ، ومن خلالهم وعبرهم ، استطاع توظيف القبيلة لصالحه ، كتنظيم حربي ذي مهام سياسية واقتصادية واجتماعية ، مقابل عطايا وهبات مالية وعقارية ، أو وظائف وأسلحة ورتب عسكرية ، كما قاد في الوقت نفسه ، عملية تفكيك وإضعاف للقبيلة ، التي رآها تشكل خطرا عليه ، من خلال خلق وتفريخ مراكز نفوذ لوجاهات قبلية مغمورة ، ودعمها بإمكانيات الدولة ؛ لتنافس شخصيات قبلية عريقة ؛ بغية إخضاعها وقبائلها لهيمنته ، ولذلك حرص المخلوع علي عبدالله صالح ، على تغذية الحروب القبلية ، ومنع الدولة من التغلغل في المجتمع القبلي ، فمؤسسات الدولة ، كأقسام الشرطة والمحاكم وغيرها ، ليس لها تواجد في حوالي 70% من المديريات الريفية ، وانحصر تواصل الدولة مع أبناء القبائل القاطنين فيها والعكس ، بمشائخ القبائل الذين حازوا على امتيازات من النظام ، فاحتل بعضهم مواقع عليا في الجهاز الإداري للدولة ، وانخرط البعض الآخر في الشأن الاقتصادي ، وقدم الدعم له بإعفائه من الضرائب أو الجمارك ، فأصبحوا غير محتاجين لأفراد القبيلة ، وسلطتهم معتمدة على النظام ، وليس على القبيلة ، ما مكن المخلوع علي عبدالله صالح من شراء ولاءات المشائخ ، وتكوين تحالفات معهم ، مستغلا قضايا الصراع التي زرعها بين القبائل ؛ ليتم من خلالها تجنيد أفراد القبائل ؛ لضرب خصومه والانتقام منهم ، فلكي يثأر من آل الأحمر ، الذين أيدوا ثورة 11 فبراير2011 م ، نسق مع الحوثيين ؛ لدخول عمران عن طريق قبيلة سفيان ، التي كانت في صراعات مستمرة مع قبيلة العصيمات ، التي هي قبيلة آل الأحمر ، كما حيد كثيرا من القبائل من الوقوف معها ؛ لتحارب العصيمات منفردة ، وتكن النتيجة سقوط عمران بيد الحوثيين ، وتشريد معظم الوجاهات القبلية لبيت الأحمر ، التي أيدت ثورة 11 فبراير لخارج الوطن ، وتدمير منازلهم والاستيلاء على ممتلكاتهم.
كشف انقلاب 21 سبتمبر 2014 م ، أن لدى اليمنيين وحدات عسكرية منشأة من قوتهم ؛ لتحمي سلطة المخلوع علي عبدالله صالح ، متخمة بالعدد والعتاد ، لا بولائها للوطن ، ودفاعها عن الثوابت الوطنية ، وساهمت بشكل كبير بحكم تركيبتها الفئوية ، وعقيدة ولائها للفرد والقبيلة ، في إيصال اليمن لمصاف الدول الفاشلة ، وقضت على حلم اليمنيين ، في إدارة صراعهم السياسي بطرق سلمية ، ووسائل عصرية ، وفجرت صراعا دمويا ، الهدف منه ليس إعادتنا للتشطير ، الذي تجاوزناه بالوحدة اليمنية ، بل لحكم دويلات المناطق والقبائل والمذاهب ، والتي مافتئ الحكم العصبوي الفردي ، يهددنا بها ، بعد أن قضى على ميراث دولة الشهيد إبراهيم الحمدي ، الذي بدأ في وضع المداميك الأولى ، لدولة المواطنة المتساوية ، وقضى بعد الوحدة ، على ميراث الجنوب ، الذي كان قد أصاب تنظيمات ما قبل الدولة بالضعف ، وبنى دولة تحتكر القوة والنظام السياسي ، وهاهم اليمنيون اليوم ، يدفعون من حياتهم ثمنا باهظا ، دما وجوعا ، ودمارا وتشريدا ، عاقدين العزم على ألا يستقر لهم بال ، ويهدأ لهم حال ، حتى يستعيدوا وطنهم المنهوب ، ودولتهم المسلوبة.