د/عمر عبدالعزيز
المُقاربة الاستباقية الرائية لحكيم اليمن الدكتور عبدالعزيز المقالح حول الوحدة العربية جاءت في وقتها تماماً، فلقد ثبت على مدار الزمان أن وحدة الأمة في كيان واحد هو الضمان الاستراتيجي لكبح جماح الاستباحة الشاملة التي تتعرض لها المنطقة العربية، فقد تحول هذا البعد الكياني العربي الكبير إلى «ملطشة» مخزية، ودرب لتطاول الأجندات المختلفة، بأشكالها البراغماتية المجبولة بنواميس التاريخ البشري المترع بالعنف والتبرير حيناً، والنزعات الشوفينية الضيقة أحايين أخرى.. مع إمعان مريب في استدعاء الموروثات السلبية من خلال إشاعة الاستقطابات الإيديولوجية المذهبية التي تمزق النسيج الاجتماعي التاريخي، كما فعلوا ويفعلون في سوريا والعراق ولبنان، وكما حاولوا ويحاولون في اليمن.. حيث فشل أنصار الاستقطاب المذهبي المفتعل في مآربهم، فلم يتمكنوا حتى اللحظة من الانحراف بالمعركة السياسية واضحة الملامح، إلى تقاتل زيدي - شافعي كما خططوا له، مُتناسين أن قوة التاريخ والجغرافيا والحكمة أكبر بكثير من الاستزراعات المفتعلة للنبتات السامة.
ولم تقف تلك المحاولات عند حد المناطق العربية الساخنة، بل شملت مصر عبر شق التكامل العبقري بين المسيحيين والمسلمين، وكما حاولوا ذات الأمر في المملكة العربية السعودية والكويت.. حيث نجحت الحكمة العربية في نزع ذلك الفتيل.
النموذج العربي للتكامل والكيانية الصلبة ينبع من حاجة ضرورية ملحة أكثر من أي وقت مضى، فالمواجهة سافرة، والتحديات ثقيلة، وكامل الأقاليم العربية تواجه ذات المرجل الذي يغلي بما فيه، والقابعون في غرف الظلام والخفاء يتعاملون مع الساحة العربية كما لو أنها رقعة شطرنج متشظية.. تفتح شهية الواهمين الطامعين لتحويل هذه الجغرافيا العبقرية إلى مجرد ساحات لتسويق تلك الأجندات المتوارية خلف غلالات التعصب والعدمية، بقدر إمعانها في استخدام معاول الهدم المنهجي لموروثنا التاريخي القائم على وحدة الأرض والمصير.. ذلك الموروث الذي تسيّج دوماً بالوسطية الدينية، والتعايش التكاملي بين أنساق الكلام والاجتهاد والرأي، بل وتأصيل الحضور العربي والإنساني المُغاير في الدين والعقيدة، مما كان وما زال مشهوداً في تواريخ بغداد ودمشق والأندلس، فلم يشهد التاريخ المعروف في أوروبا والشرق الأوسط قدراً من التناغم المتواشج بين الإسلام السني بطيوف ألوانه الشفقية، واليهودية الدينية الخالية من تعصب التلموديين، والبروتستانتية الهاربة من جحيم صكوك الغفران الكنسية الأوروبية في القرون الوسطى، وحتى العمق الأرثوذوكسي المسيحي المشرقي المشمول بطهرانية المسيح عيسى عليه السلام.
لم يشهد التاريخ مثالاً للصفاء والنقاء والبناء كما حدث في الأندلس، وقبلها في بغداد ودمشق والقاهرة، وبالمقابل كانت بلدان الأطراف العربية حاضنة كبرى لفرق الاجتهاد والتفسير والتأويل، بتنوع ألوانها وسياقاتها الثقافية، وكان الإسلام المُتروْحن بقوة التعايش والتكامل سياجاً منيعاً للواحدية العربية.
تواجه الأمة اليوم هجمة عاتية، وضلالات ما أنزل الله بها من سلطان، فها هي مؤسسة الملالي السياسية في طهران تستبدل الأعلى بما هو أدنى، وتستغرق في أوهام شوفينيتها القومية الآرية.. تماماً كما فعل هتلر ذات يوم قريب، فأورث الأمة الألمانية نيراناً وسعيراً وموتاً ودماراً.
تنسى مؤسسة ولاية الفقيه السياسية أن إيران المتعددة المتنوعة قومياً، ودينياً، ولغوياً، ومذهبياً.. تمثل السياج المنيع للإسلام الإيراني المعتدل، وتنسى أن افتئاتها على العرب سيضعها في مربع الفشل والإخفاق، وداخل إيران بالذات. فالقومجيون الشوفينيون الذين يقولون بالنقاء السلالي هناك، ينسون أن الجغرافيا القومية والدينية واللغوية الإيرانية تمتد في كامل تلك الأعماق، وتتسع للبلوشيين، والعرب الأحوازيين، والأكراد، والتركمان، والأوزبكيين والأفغان، وعشرات القوميات الأخرى، فيما يتَّسع عمقها المذهبي الديني للشيعة، والسنة، والإسماعيليين، والزرادشتيين، والمانويين، والمجوس والمسيحيين، والبهائيين، والقاديانيين، والإيزيديين، وغيرهم من فرق الكلام والاجتهاد.
تلك الكيمياء الحيوية في الداخل الإيراني تتأبى على المصادرة والإلغاء لأنها تنبع من أعماق الموروثات العقدية التي تصل بمعتنقيها إلى تخوم القداسة.
المفتاح السحري لكمال وتوازن إيران الدولة، يكمن تماماً في التخلي الحر عن ثقافة التعصب القومي، والتسربل بالغطاء المذهبي الشيعي الذي انتهك أصلاً وأساساً من قِبل مؤسسة ولاية الفقيه.. تلك التي حولت المرجعية الدينية الناصحة للحاكم، إلى حاكمية دنيوية لم ترد في أصل المذهب، وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل قامت بتعميم ذات النمط في العالم العربي، لتضعنا جميعاً أمام مخاتلة تاريخية قاتلة، نشاهدها اليوم في العراق وسوريا ولبنان.
تمتد المنطقة العربية كما يعرف الجميع من المحيط الأطلسي غرباً وحتى الخليج العربي شرقاً، ومن البحر الأبيض المتوسط شمالاً وحتى المحيط الهندي جنوباً.. لكن هذه الامتدادات الواسعة في المحيطات والبحار الكبرى تنفتح على آلاف الجزر، وعشرات الخلجان، وتشكل حالة من التمازج الثقافي النوعي المقرون بإنتربولوجيا تاريخية ثقافية مقبلة.
لا ينقص الكيان العربي شيئاً سوى إرادة الانطلاق صوب تحقيق كياني وجودي لا يمس الأقطار الماثلة، ولا يبحث عن صيغة اندماجية تذيب الأطراف في المراكز، بل صيغة اتحادية مفتوحة على التعدد الشامل، والخيارات الواعية لكل مشترك في هذا المتحد الجمعي التوافقي العربي، الذي يضيف لنا الكثير ولا ينقص منا شيئاً، والأهم من هذا وذاك أن هذه الوحدة الكيانية التعددية العصرية النابهة هي الوسيلة المثلى لمُغالبة الاستحقاقات، والخروج من شرنقة الاستضعاف.
الوحدة العربية المقترحة أقرب منالاً من الاتحادات الروسية والأمريكية، من حيث توفر كامل الشروط، والأهم من هذا وذاك الأسباب التي تجعلها حتمية في ظل الاستحقاقات المصيرية الماثلة.
*صحيفة الجزيرة القطرية