فيصل علي
في مثل هذه الأيام من العام الماضي اللعين كنا محشورين في الرصيف نضرب اخماسا في اسداس، ونكتب تحذيرات لمن لم يذق الموت من قبل :ستموت الان او بعد قليل لا تخف، كنا نحرس عرش سبأ من رصيف لم يعرف الذل قط، من كانوا خارج البلد كانوا اقدر على ايصال وجعنا لأبعد مدى ..
بحق من شاركونا الوجع من شعبنا الذي لم يستوعب لعبة تحالفات المليشيا والقبيلة والعسكر و"حداثة حك لي شاحك لك" ولم يستطع تفكيك عمليات السقوط والتسليم، بحق كل وجع ذقناه تلك اللحظة صمدنا وحاولنا الظهور متماسكين كسرب النوارس، سقط كل شيء وبقينا صامدين في عالمنا ، ولم تبق عبرة الا وسكبناها لأجلك يا وطن، ولاجلكم يا شعب، وعلي كل لم يمكث في قلوبنا الا الله وشيئا من صبر كنا قد قرانا عنه في تراثنا الحبيب.
لم اكن انا وحدي من اتفقد افراد رصيف العز الباقي من الوطن، فكل فرد كان يفعلها خفية، حتى الذي لم يكن يهتم بالدعاء واخر مرة سمعه بصوت امه عندما غادر نحو المجهول، كان يدعو بخشوع قلب لايوصف ولا نسمعه بل نحسه، كنا اقران اضداد ،لكن الرصيف جمعنا على حبك يا وطن.
ضحكنا من الوجع على خيباتنا المتلاحقات، خيبات شعب طارت دولته بلمح البصر، أين الجند وأين الوطنية وأين الوطن؟
وعندما يدب الوجع يمشي في عظامنا كالسكاكين، كنت ادلق ما بحوزتي من سليط الجلجل في قلب الرصيف، واضحك استمتعوا باللحظة، فثمة متعة في الموت، وجنون لا يوصف في حراسة من نثق فيهم من ضباطنا وجنودنا، نعم كنا نحرسهم بحدقات أعيننا الجافة من الدموع واليأس معا.
عندما ضعت يا وطن استبقينا نحن المشردون في كل الآفاق رصيفا واحدا وسع كل همومنا، وكل اوجاعك يا وطن احسسنا بها وعشناها لحظة بلحظة.
هذا الرصيف الحر لم يكن فسيحا جدا، ولا ضيقا جدا فقط يسع كل دمائنا واهات شعبنا ،وأراء صادقة، ووحشة الديار كانت تجول في رصيفنا.
بحق كل لحظة انكسار ،وكل لحظة عري ،وكل لحظة موت ، وكل لحظة الم، وارتعاشة البنان حين كتابة اسطر الضياع احببناك يا وطن كما لم نفعل من قبل، لأجلك عدنا جميعا الى الصف الأول في مدرسة الفتيان، واستمعنا بجد ودرسنا باجتهاد، لم يكن لنا من هم الا كيف نقاوم الموت القادم من فضيحة النخب، وشاصات الكهوف ،وكيف ننجح في ابقائك يا وطن حيا ،وبعيدا عن أعين باعة الدم والمعلومة عديمي الشرف والوفاء.
عندما ضاقت علينا بما رحبت اتسعتنا يارصيف العمر، وكنت انت انت الوطن، اشتقت لكم يا رفاق الرصيف لخوفكم، للرهبة ،للحب ،للهم الجماعي الموحد للوطن المفقود ،لحكايات الصبر، والصمود ،والمقاومة بالكلمة ابتدأً.
عندما فر الناس بقينا على الرصيف كمجاذيب لا يموتون الا بحسبة معقدة، لا الموت يقدر علينا ولا العدو، وارتفعت أصواتنا عندما غابت كل انبعاثات الضجيج الموسوم بالخوف، وقلنا بصوت واحد يمن يمن يمن.
واتسع المدى، وطار النوم لاشهر الا من ساعة وساعة غفوة أعين وقلوب تحرس ذاك النسيم القادم من صحوة الفجر القريب البعيد، ومن عمق السراب المريب..
عونك ياوطن عونك، كانت التجربة وكان ميلادك يا وطن من الرصيف حقيقة لا يشك فيها اي مجذوب رصيفي التفكير، اصمت يا فلان لا تذكر اسم الضابط فلان، وانسوا أسماء العسكر محبي الوطن المختفين في فؤاده الحزين.
كل هذه الحرب لا تساوى دقيقة في الرصيف في أيامه الأولى، حيث كانت الخيانة هي السلعة الأكثر رواجا، ومن كانوا رفاق الأمس تبردقوا ، وكل الأصوات النشاز اختفت، وكل منظمات نهب تفكير الناس اختفت، كل الجبناء عيال المكالف اختفوا..
لابد لهذا الرصيف من تاريخ ،وتجديد،ووضع باقة ورد على تلك الطاولة التي اجتمعنا حولها منذ عام ، وقبلة لكل روح كانت تحوم على رصيفك يا وطن.