الأرشيف

من ذكرى فرح حدودي مشترك

الأرشيف
الخميس ، ٣٠ يوليو ٢٠١٥ الساعة ٠٩:٢١ مساءً

عبده سالم


في رحيل الوالد الشيخ عبد العزيز الحبيشي

"حافظوا على هذه الوحدة الحاصلة ... والثانية متى،ما تجيء،جاءت"

في عام 1987م شرفني الشيخ عبد العزيز بحضوره حفل زفافي الذي أقمته في مدينة الراهدة، كونها المدينة المناسبة لاستقبال الضيوف،ولقربها من قريتي في جبال القبيطة عند النقطة المشتركة،وكذا قرى الضيوف من القرى الشمالية، الجنوبية، المشتركة ،بين الشمال والجنوب سابقا وكلها قرى حدودية شطرية متداخلة، ومساكن لأناس شماليين، وآخرين جنوبيين، لا يفصل المسكن الجنوبي عن المسكن الشمالي سوى مئتين متر وبعضها لا يفصلها سو? ثلاثة أمتار أو أقل، ومع ذلك تتوزع بعضها في جغرافية الجنوب ،والأخرى في جغرافية الشمال، وأحيانا تكون هذه المساكن في كل من الجنوب والشمال لأسرة واحدة ،بل لأخوين شقيقين ، أحدهما يسكن في سيادة الجنوب ،والآخر في سيادة الشمال.

 

إضافة إلى وضع المساكن المتداخلة في هذه القرى ،هناك  جرب مشتركة.. أي: (مساحات أرض مزروعة) يتقاسمها ورثة شماليون وجنوبيون ،وهي لمورث واحد إما في الشمال ،وإما في الجنوب ،وهو الوضع الذي ظل الشيخ عبد العزيز يسمعه، ويتابعه باهتمام ، ويسأل عن كل تفاصيله أثناء مجلس المقيل ،الذي ضم ضيوف القرى المتداخلة من كلا الشطرين، وبحضور مسؤولي أمن الحدود والنقطة المشتركة والاستخبارات.

 

بعد أن سمع الشيخ عبد العزيز مجمل الإجابات من الحاضرين ،عن كافة استفساراته حول طبيعة العلاقة بين المواطنين من كلا الجانبين ،وكيفية التنقل بين الشطرين، والقواعد الأمنية المنظمة للتنقلات .. حينها تأكد للشيخ أن المواطنين في هذه المناطق من كلا الشطرين يعيشون مع بعضهم في حالة وئام، وعلاقات حميمية  تتجاوز العلاقات بين القيادتين السياسيتين في الشطرين ،وهي الحالة التي كانت مثار إعجابه إذ عبر عنها بعبارة مختصرة ،وبلغته البسيطة ،ولهجته العامية الدارجة المعتادة، حيث قال(ما هذه إلا وحدة أهلية ..قد هي حلا)... أحد الشباب الحاضرين من أبناء هذه المناطق قاطع الشيخ مستدركاً : (على طريق الوحدة اليمنية)؛ وكأن هذا الشاب أراد أن يكمل عبارة الشيخ عبد العزيز، بحيث تصبح هذه العبارة: (ما هذه إلا وحدة أهلية ،على طريق الوحدة اليمنية.. قد هي حلا)... رد الشيخ على هذا الشاب قائلاً: ( أنا أقول لكم حافظوا على هذه الوحدة التي هي قائمة بينكم الآن كأهل في هذه القرى سواءً كنتم تابعين للشمال أو للجنوب؛ لأن هذه الوحدة هي وحدة أهلية ، أما الوحدة اليمنية القادمة التي تقصدها فهي وحدة سياسية ،لوما يسدّوا الكبار).

 

عبارة (لوما يسدّوا الكبار).. استفزت أحد مسئولي أمن الحدود في الشمال الذي تدخل فوراً لينقل الحديث إلى أحداث يناير، دون أدنى مراعاة لظروف هذه المنطقة المتداخلة التي شهدت ظروف صعبة وتوترات بسبب هذه الأحداث بحكم قربها من المعسكرات الحدودية للجنوب التي شهدت مواجهات مسلحة بين طرفي الصراع، فضلاَ عن أن هذه المنطقة ظلت مفتوحة بكل منافذها لاستقبال النازحين.. الأخطر من ذلك أن هذا المسئول لم يتناول أحداث يناير بحيادية، حيث بدء كلمته بالإشادة بجهود قيادة علي ناصر في سبيل تحقيق الوحدة، ومندداً بالانقلابيين بقيادة علي سالم البيض، ثم واصل حديثه مشيداً بجهود القيادة في الشمال في استقبال النازحين، كما حيا جهود الرئيس صالح في سبيل تحقيق الوحدة اليمنية.

لم يعلق الشيخ عبد العزيز على كلمة المسئول الأمني، وظل يتناول القات وكأنه لم يسمع شيئا.

 

أخبرني عمي (والد العروس) الذي هو شيخ المنطقة، وقائد حرس الحدود فيها، وهو صديق للشيخ عبدالعزيز ،سبق لهما أن سافرا سوياً إلى روسيا ضمن وفد رئيس الجمهورية في حينها... قال لي عمي: (حاولت أن أخرج الشيخ عبد العزيز من صمته، وأدفعه للإشادة بكلام المسئول الأمني، ومن ثم الحديث عن جهود القيادة السياسية في الشمال في سبيل تحقيق الوحدة اليمنية لاسيما وأن الشيخ عبد العزيز يُعد أهم وأكبر مسئول رسمي في هذا المقيل؛ كونه مستشارا لرئيس الجمهورية).. فقلت له: (والكلام لعمي شيخ المنطقة)... كلامك مهم يا شيخ عبد العزيز عن أهمية الحفاظ على الوحدة الأهلية، لكن ما رأيك هل تشوف أن الوحدة اليمنية قد قرب موعدها؟).. فرد الشيخ عبد العزيز علي  ( والحديث لعمي الشيخ) بنفس عبارته السابقة قائلاً: (حافظوا على هذه الوحدة الأهلية القائمة بينكم باعتبارها الوحدة الحاصلة).. فقلت له: (والوحدة الثانية؟).. فردّ عليّ: (والثانية متى ما تجي جاءت).

 

أنا شخصياً لم أكن حاضراً هذا الحوار الذي دار في المقيل, لكنني سألت عمي لاحقا عن تفاصيل هذا الحوار فنقل لي عمي  تفاصيل هذا الحوار لاحقاً كما ورد في هذه الرواية.

 

تسعة وعشرون عاماً وأنا محتفظُ بهذه الرواية التي أوردتها بعمومها كما نقلت لي تماماً ...الأهم من ذلك أنني ظليت طيلة هذه الفترة حافظاً لهذه العبارة الرهيبة : (حافظوا على هذه الوحدة الحاصلة والثانية ... متى ما تجي جاءت).

 

دار الزمان وما هي إلا ثلاث سنوات ونصف إلا والوحدة (جاءت) فعلاً كحقيقة ناصعة في 22مايو1990م ...تبعتها ثلاث سنوات ونصف كفترة انتقالية لتدخل هذه الوحدة التي (جاءت) مرحلة الحرب المؤسفة في صيف94م ،.

على الرغم من أن هذه الحرب قد حسمت أمر الوحدة كما يبدو لبعض الناس في ظاهر الأمر إلا أن، آثارها كانت كارثية، شانها شان كل الحروب الأهلية في العالم؛ التي لا تخلف وراءها إلا أوطاناً مدمرة، وحقوقاً مسلوبة، ومجتمعات منكسرة، وعادة ما تحتاج أنظمة الحكم المنتصرة في هذه الحروب ـ في حال صلحت نواياها ـ إلى سنوات لإصلاح ما دمرته الحروب في النفوس والخواطر قبل المساكن والأموال...اما في حال ساءت نواياها،فعادة ما تتحول هذه الآثار إلى عُقد اجتماعية في النسيج الوطني ،وإلى بؤر ملتهبة لصراعات قادمة...وهذا ما حدث بعد انتهاء هذه الحرب بسنوات...فبعد مرور الأيام والسنين شاهد اليمنيون كيف تعقدت الأوضاع في الجنوب لاحقاً وما نتج عن ذلك التعقيد من تشكل بؤر انفصالية مسلحة ،على النحو الذي لا يهدد  الوحدة اليمنية فقط ،بل يتجاوز ذلك إلى تهديد الوحده الأهلية التي كانت قائمة بين أبناء هذه القر? الحدودية في ظل التشطير ...

 

أنا الآن في العام التاسع والعشرين من اليوم التي قيلت فيه هذه العبارة...نعم أجدني الآن بعد هذه الفترة الطويلة، ونحن نعيش هذا الصراع الدامي الذي فرضه علينا أعداء اليمن التاريخيون وما يتخلله من نزعات انفصالية وهمهمات من هنا أو هناك إزاء ملامح لمرحلة يمنية جديدة ،تحمل في حناياها مشروعا وطنياً ،لإعادة صوغ وحدة 22 مايو على أسس اتحادية جديدة، لتتحول مهمة الحفاظ على الوحدة الأهلية عاملا مهماً لضمان  استكمال هذا الصوغ الوحدوي الجديد ،ومن ثم تبقى عبارة الشيخ عبد العزيز(حافظوا على هذه الوحدة الحاصلة ..والثانية متى ما تجي جاءت) حاضرة بفاعلية في كل هذه المتغيرات.

 

نعم إنها عبارة بسيطة في كلماتها،عامية في لهجتها ،لكنها عميقة في مضمونها، قوية في دلالاتها ،كاشفة في استشرافاتها للمستقبل ...وهنا تكمن عظمة الشيخ "عبدالعزيز الحبيشي" الذي جعل من بساطة لغته ،وعامية لهجته ،روافع أساسية لمشروعه النضالي ومواقفه السياسية.

 

رحم الله الوالد الشيخ عبد العزيز وأسكنه فسيح جناته وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله انه سميع  مجيب..والعزاء الخالص لأبنائه وأهله ومحبيه من بعده خصوصا أخي العزيز نبيل وأخي الصغير عادل وإنا لله وإنا إليه راجعون ....

 

 أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)
أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)