مصطفى النعمان
في مقابلة نادرة أجرتها صحيفة «26 سبتمبر» مع «الدكتور» عبد الكريم الإرياني، طرح رؤيته للأحداث كما عايشها وكان واحدا من صناعها، وعبر فيها عن قلق وخوف شديدين لمآلات الأوضاع على الساحة اليمنية باعتباره شريكا أصيلا في حلوها ومرها، ورغم أن اعترافاته جاءت متأخرة، فإن طبيعته الإنسانية، التي اعتاد عليها طيلة سنوات عمله السياسي في الميدان اليمني كمساهم في تفاصيلها وعارف بنتوءاتها ومؤثر في توجهاتها، كانت تمنعه من التعامل المستمر مع الإعلام، وكان دوما يفضل امتصاص الخلافات والسعي لإشاعة روح من التفاؤل والابتعاد أحيانا عن الواقع حتى لا يصيب الناس بالمزيد من القلق.. لقد اختلفت معه منذ بدء المرحلة الانتقالية، وخصوصا النظرة إلى «مؤتمر الحوار الوطني»، وما كنت أصر على تسميته بـ«لقاء الموفينبيك» وعبرت عن آرائي كتابة في هذه الصفحة وشفهيا في كل لقاء كنت أسعى إليه وأسعد أن يجمعني به لأستفيد من تجربته الإنسانية والأخلاقية والسياسية، وكنت ألاحقه وما زلت، ودوما أعتبره معلما لي رغم عدم الاتفاق أحيانا - كانت كثيرة أخيرا - ولكني أشهد أنه ما غضب من موقف اتخذته ولا من رأي عبرت عنه، بل كان كعهده مثالا صارخا للترفع وعدم الابتذال في الخصومة السياسية أو عدم الاتفاق مع رأي يبديه أي إنسان.
شرح «الدكتور» في المقابلة ما حدث - كما عايش وعاش - خلال الأشهر التي تلت اقتحام «أنصار الله» لعمران ثم صنعاء ثم البيضاء وأجزاء من إب، ورغم أن ما قاله يحتمل الخطأ والصواب، فإنه رغم انتقاداته الشديدة لهم كان عف اللسان ومترفعا عن السقوط في فخ تحويل الأمر إلى قضية شخصية.. ولكن ذلك لم يشفع له عند بعض من قيادات «أنصار الله» ومناصريهم فاندفعوا في حملة يمكن القول صراحة بأنها كانت خالية من آداب الاختلاف والحوار والنقد.
«الدكتور» ليس منزّها عن الخطأ وليست عنده وحده الحقيقة، ولكن ذلك لا يمنح مخالفيه من قيادات «أنصار الله» ومناصريهم حق امتلاك الكلمة الفصل وادعاء الفضيلة ورمي مخالفيهم باتهامات وتحقيرهم.. ولقد كان مزعجا ومؤلما ومنافيا لأبجديات العمل السياسي في حدوده الدنيا تلك الحملة الممنهجة ضد الرجل، لأنه عبر عن الأحداث من وجهة نظره، وكان ممكنا لهم توضيح عكسها ونقضها بدلا عن تسفيهها وتسفيهه، لكن يبدو أن قلة الخبرة وعدم التعود على الرأي الآخر المخالف ساهما في فقدان لغة الحوار العاقل والهادئ عندهم.
صار من الواضح أن العمل السياسي المتعارف عليه يمنيا قد اختلفت قواعده ومعاييره ولم تعد متاحة تلك المساحات - الضيقة أصلا - من التعبير الحر، ومن الغريب أن عددا من الذين اندفعوا لمقارعة أي رأي ينتقد ما تقوم به عناصر «أنصار الله»، قد وقعوا ضحية نفس المدرسة الأحادية التفكير والمنطق عند أول اختلاف في الرأي، وإذا كان هذا هو الحال في بداية تغول الحركة الحوثية وملاحقتها بالقول والفعل لكل من يتعرض لتصرفات أفرادها أو يعترض عليها، فلا بد أن يكون القلق والريبة من المستقبل المنظور مسيطرين على أصحاب القلم المستقلين والرأي والفكر، كما لم يكن «السيد» موفقا في زعمه أن الانتقادات التي يوجهها هؤلاء الشباب والقضايا التي يثيرونها تأتي اعتراضا على محاصرة بيع الخمور التي هي ممنوعة شرعا وقانونا، ففي ذلك تبسيط غير معقول للأمور، ولا بد أن كلماته ستثير المزيد من الأسئلة حول الأهداف النهائية لحركته ورؤيته للحريات العامة والشخصية ومفهومه للمواطنة المتساوية.
لقد تعلق الكثيرون في الماضي بخطاب «السيد» وكلماته المنمقة عن ضرورة إقامة دولة المؤسسات وتصوروا أنه سيكون رافعة حقيقية وجادة ومسؤولة، وليس صحيحا القول بأنه لا يعلم تفاصيل ما يجري على الأرض من استفزازات تمارسها عناصر حركته وارتفاع في درجة شهيتهم للتوسع جنوب حدود مناطقهم في جهات جغرافية ليست معنية بهمومهم المذهبية الصرفة، وهذا يتناقض كلية مع ما يشيعونه من نزاهة مقاصدهم، ولكن الإنصاف يلزمني القول إن خبرتهم السياسية وعدم إدراكهم لتعقيدات العمل السياسي وارتباطه بالإقليم المحيط بداية والمجتمع الدولي، تستوجب عليهم البدء في مراجعة أسلوب عملهم وأهمية اندماجهم في الأطر القانونية التي تسري على بقية القوى السياسية، وليس من حقهم مواصلة الاعتداء على كل مؤسسة قائمة لا تتناسب مع مزاجهم حتى وإن كانت الذريعة فسادها أو الشك في ولاءات القائمين عليها، لأن ذلك سيعني تعمد تدمير بقايا هياكل الدولة مع عدم الشروع ببناء بدائل يتم التوافق عليها مع بقية أبناء الوطن، وليس معقولا أن يتحول الأمر كما كان في ليبيا إبان عهد القذافي وأن تقوم لجان غير قانونية - تحت أي اسم أو مبرر – القيام بالرقابة والملاحقة وتصبح خصما وحكما في آن.
لقد شهدت الأشهر الأخيرة موجة عاتية من الاعتداءات المتكررة على مؤسسات ومسؤولين في وقت كان الكثيرون يتوهمون أن التوقيع على اتفاقية ما سمي بـ«السلم والشراكة» سيكون الخطوة الأولى نحو سلم حقيقي وشراكة مطلوبة، ولكن هؤلاء أغمضوا عيونهم وأغفلوا أن القوة الوحيدة المتبقية على الساحة اليمنية لا يمكنها القبول بأقل من الانتقال الكامل لمركز القرار من صنعاء إلى حيث مركز السيد في صعدة.
إن ما تحدثه تصرفات «أنصار الله» واستهانتهم بكل من يختلف معهم ليس نتاج إرادة شعبية، وإنما هو، وبامتياز، حصيلة تفكك منظم لمؤسستي الجيش والأمن المعنيتين حصريا بتأمين المواطنين، ولم تفلح كل المحاولات الخجولة لاستعادة مكانتهما وتعرضتا لسيل من الضربات الموجعة أفقدتهما القدرة على تنفيذ أي من مهامهما، ولعله من المؤسف أن تتناقل وسائل الإعلام مدى الإهانة التي يتعرض لها الجيش اليمني من قبل عناصر «أنصار الله» وهو أمر سينعكس قريبا على بقايا هياكل المؤسسات القائمة.
في الوقت ذاته، فإن اللجنة المعنية بصياغة الدستور الجديد ستنجز مهمتها الوطنية وستقدم إلى الناس مسودة جهدها المضني طيلة أشهر مضت وينتابني قلق وخوف من رد فعل «أنصار الله» وكيفية تعاملهم مع نصوصه قبل وبعد إقرارها، ومرد ذلك إلى تجارب سابقة واجهوا فيها ونقضوا معها كل نص فرضوا هم شروطه وصياغته، وكم يتمنى المرء أن يدرك «السيد» ومعاونوه أن الكل صار مجبرا على الاعتراف بهم والتعامل معهم كقوة مسلحة قادرة على الحسم في الميدان، ولكنهم لم ولن يكتسبوا مشروعية حقيقية إلا إذا اعترفوا، فعلا لا قولا، بأنهم حريصون على المواطنة المتساوية، وبأنهم فصيل يمثل جزءا من الوطن، ولا يمثلون الوطن كله، وأنهم لا يمثلون الحقيقة المطلقة التي لا يمتلكها إلا الله.
المصدر/ الشرق الأوسط