ناصر الحزيمي
في عام 1976م تقريباً ذهبت إلى مكة المكرمة لطلب العلم في معهد الحرم المكي وفعلاً تم ذلك وقبلت في المعهد وقتها بعد أن عمل لي اختبار القبول أو المقابلة الشخصية الشيخ يحيى الهندي أستاذ التوحيد في المعهد والمدرس للتوحيد في الحرم المكي وكان الوقت بعد رمضان وكنت قد خططت للدراسة على الشيخ بديع الدين بن إحسان الله شاه الراشدي إلا أن الشيخ وقتها في الباكستان في زيارة وسوف يعود في ذي الحجة قبل الحج أما المعهد فسيبدأ نشاطه التعليمي بعد موسم الحج وهكذا وجد عندي فراغ يجب أن أملأه بنشاط علمي فقررت أن أحضر دروس الشيخ يحيى الهندي في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله وكتاب العقيدة الواسطية بشرح الهراس، وفعلاً تم لي ذلك وبدأت أحضر عند الشيخ بانتظام في هذه الفترة تعرفت على كثير من الزملاء من عدة بلدان وهو مناخ جديد عليّ وكان معي في درس الشيخ يحيى عدة زملاء من اليمن الشقيق زملاء تحولوا بعد ذلك إلى أخوان فبعد نهاية درس الشيخ يحيى كنا نتجمع حول أعلمنا وأكبرنا سناً فنراجع معه الدرس ونسأل عما يشكل واتضح لي أن أكثرهم يحفظ القرآن الكريم كاملاً ومتن كتاب التوحيد أو متن الواسطية كما أنهم يحفظون متوناً أخرى مثل الأجرومية والشذور، بل إن بعضهم يحفظ ألفية ابن مالك بشواهدها وغيرها من متون معروفة مثل متن ملحة الإعراب للحريري وكانوا يتبارون في الإعراب والمواريث والتقسيم، لقد كان هذا الجو جديداً عليّ بحق ومن الأسئلة التي سألتها لأحد الأصحاب منهم حول شهادة معهد الحرم وهل تقبل في الجامعات فأخبرني أن جامعة أم القرى كانت ترفض معادلة شهادة معهد الحرم فكاتبهم الشيخ عبدالله بن حميد وطلب المناظرة بين طلاب المعهد وطلاب الجامعة من أي مرحلة وفعلاً عمل مقابلة مع بعض طلاب المعهد فوجد مستواهم يؤهلهم لدخول جامعة أم القرى فقبل طلاب المعهد في هذه الجامعة من تلك الساعة.
يندر أن تجد طالب علم في الحرم لا يمارس دوره في التجارة والسير بين الحجيج والمعتمرين عارضاً بضاعته أو سلعته وما ينتج من هذا الجهد مبالغ لا بأس بها تساعد على تسديد الديون المتراكمة على طلاب العلم لعام كامل
إن مجمل هؤلاء الطلاب متغربون عن أهلهم بحجة طلب العلم أو العمل وغالباً إن من تغرب لطلب العلم قد يتلقى مساعدات من أهله أما من تغرب للعمل ثم تغير مساره لطلب العلم فيلقى العنت والحرج لأن أهله في اليمن ينتظرون منه المساعدة والدعم إضافة إلى أن بعضهم متزوج وله أطفال وبالرغم من هذا فهم ينحتون في الصخر لكي يسدوا حاجاتهم وحاجات أسرهم في بلدانهم.
من الأمور الجيدة التي ساعدت طلاب العلم من اليمن هو وجود رباط خاص بهم موقوف على طلاب العلم من أهل اليمن واسمه رباط اليمنى وهو بناء كبير مكون من عدة أدوار تحيط به الغرف التي تتسع كل واحدة منها لشخصين أو ثلاثة، ومثلي كطالب معدم وجاهل بطرق الكسب والمعيشة كنت في أمس الحاجة لمن يوجهني ويعرفني بأسرار المعيشة في مكة خصوصاً وأن المعهد لم يصرف لي المكافأة الشهرية والتي تساعدني على العيش والاستمرار في طريقي العلمي كما أنني لم أنضم لشيخ أقرأ عليه قد يتذكرني بين الفينة والأخرى بدراهم الصدقات المخصصة لبعض طلبة العلم وما كان معي كاد أن ينفد فحكيت لأحد الزملاء اليمنيين ممن كان قريباً مني جداً فأخذني معه إلى حيث ينهي المعتمرون نسكهم وقال لي هنا ينهي المعتمرون نسكهم ويجب أن يكون معك مقص أو أكثر تمسكه بيدك فإذا رأيت معتمراً ابرز له المقص وهو غالباً ما يقبل نحوك ليستعير المقص وسوف يمنحك ما تجود به نفسه غالباً من غير أن تطلب منه شيئاً، وفعلاً زاولت هذه المهنة أوقات الذروة والفراغ وكانت مهنة مبروكة بالنسبة لي فبعض الناس يمنحني ريالاً وبعضهم يمنحني خمسة ريالات وأكبر مبلغ منح لي من شخص واحد هو مبلغ منحتني إياه سيدة من الإمارات العربية المتحدة مع زوجها وكان المبلغ مئة ريال وهو مبلغ كبير على إجارة مقص وحينما أخبرتها بذلك قالت لي حلال عليك ورزق ساقه الله لك فشكرتها على كرمها.
في هذه الفترة الواقعة بين رمضان والحج يمارس جميع الناس في مكة مهناً موسمية مثل البيع في الشوارع من خلال البسطات أو البيع من خلال الجوالين بسلعة أو أكثر وكنت منبهراً بهذا النشاط التجاري الذي يربطك بصلة مع الحجاج والمعتمرين وجميع أنواع السلع موجودة من مقلد رخيص إلى أصلي له ثمنه ولأن أحد المشايخ أفتى أحد الزملاء بأن لا يعرض سلعة إلا بعد أن يصرح بعيوبها للمشتري وأن يحرصوا على عدم بيع المقلد إلا بالتصريح للمشتري بذلك حتى لا يقع في الغش والإثم، حرص أغلب الزملاء اليمنيين وغيرهم من طلاب العلم على المتاجرة بالأصلي من الساعات مثلاً وهو أغلب ما وجدتهم يتاجرون به في الموسم.
يندر أن تجد طالب علم في الحرم لا يمارس دوره في التجارة والسير بين الحجيج والمعتمرين عارضاً بضاعته أو سلعته وما ينتج من هذا الجهد مبالغ لا بأس بها تساعد على تسديد الديون المتراكمة على طلاب العلم لعام كامل وكثير من طلاب العلم يغلب تعاملهم مع مكتبات مكة المكرمة وغالباً معيشة السنة وكل هذه الديون تسدد غالباً بعد موسم الحج ولنا حديث آخر حول ذلك.
،الرياض،